وفي النصف الأول من القرن الثاني الهجري ظهر أبو عثمان عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ المتوفى ٢٥٥هـ فألف كتبا كثيرة نقف عند اثنين منها، هما: البيان والتبيين، والحيوان، وقد تحدّث في كتابه الأوّل عن الفصاحة والبلاغة عند العرب وعند غيرهم، وأكثر من الحديث عن جزالة الألفاظ وفخامتها ورقتها وعذوبتها ونشر ذلك في كل جوانب كتابه، كما عرض لتلاقي الكلمة مع الكلمة، ملاحظا أن من الألفاظ ما يتنافر بعضه من بعض، وأوجب أن تكون الكلمات كأفراد الأسرة الواحدة التي تقوم بينها واشجة الرحم. وعلى الجملة فقد ألَمّ الجاحظ في كتابه هذا بالصور البيانية المختلفة وبكثير من فنون البديع، غير أنه لم يسق ذلك في تعريفات وتحديدات، فقد كان مشغولا بسوق النموذج البلاغية من غير أن يعنى بتوضيح دلالة المثال على القاعدة التي يقررها.
وكتب الجاحظ وإن لم تكن في موضوعنا الذي نعالجه نصّا إلا أن بالمسلم حاجة إلى قراءتها؛ ليستطيع تمييز الكلام الجيّد من غيره، وكما نعلم فإنه لا يقف على وجوه إعجاز القرآن إلا من عرف معرفة بينة وجوه البلاغة العربية، وتكوّنت له فيها ملكة يقيس بها الجودة والرداءة في الكلام، بحيث يميز بين نمط شاعر وشاعر ونمط كاتب وكاتب، وبحيث يعرف مراتب الكلام من الفصاحة.
ولا شك أن الجاحظ فيما كتب كان خبيرا بالأساليب الفصيحة يميزها ويذكر خصائصها ويكشف عن سبب حسنها أو رداءتها؛ فهو صيرفيّ بارع في هذا الشأن، وسنورد طرفا مما أتى به من تأويل بعض الآيات لنتبين مذهبه في بيان ما أشكل فهمه على الناس.
وكانت عنايته في كتاب الحيوان منصبّة على أنواع الحيوانات، وطبائعها وخصائصها وما جاء في القرآن الكريم عنها وما ذكره العرب في ذلك، وإن كان قد عرض لكثير من النصوص الأدبية وبيّن المراد منها وسبب حسنها أو قبحها.