للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويعلل القاضي عياض للأسباب التي جعلت من حسن تأليف القرآن التئام كلمه وجها من أوجه الإعجاز التي تميّز بها؛ فيقول: "وذلك أنهم (أي العرب) كانوا أرباب هذا الشأن وفرسان الكلام؛ فقد خُصّوا من البلاغة والحكم بما لم يُخصّ به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة اللسان [٣] ما لم يُؤتَ إنسان، ومن فصل الخطاب ما يقيّد الألباب، وجعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة، وفيهم غريزة وقوة يأتون منه على البديهة بالعجب، ويُدْلون به إلى كلّ سبب، فيخبُطون بَديهاً في المقامات وشديد الخَطْب، ويَرتَجِزون به بين الطَّعن والضَّرب، ويَمدَحون ويَقدَحون، ويَتوَسَّلون ويَتوصَّلون ويرفعون ويضعون؛ فيأتون من ذلك بالسِّحر الحلال، ويُطوِّقون من أوصافهم أجمل من سمط اللاَّل؛ فيَخدعون الألباب، ويذَلِّلون الصِّعاب، ويُذهِبون الإحَن [٤] ، ويُهيِّجون الدِّمن، ويُجرِّؤون الجَبان، ويَبسُطون يَد الجِعد [٥] البنان، ويُصيِّرون الناقص كامِلا، ويتركون النّبيه خامِلا، منهم البدويّ ذو اللفظ الجَزْل، والقول الفصل، والكلام الفخم، والطبع الجوهري، والمنزع القويّ، ومنهم الحضريّ ذو البلاغة البارعة، والألفاظ الناصعة، والكلمات الجامعة، والطَّبع السَّهل، والتصرّف في القول القليل الكلفة، الكثير الرَّونق، الرَّقيق الحاشية ...

ولهم في البلاغة الحجّة البالغة، والقوّة الدامغة، والقدح الفالُج [٦] ، والمهيع الناهج [٧] ، لا يشُكُّون أن الكلام طوْع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قد حوَوْا فنونها واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعَلَوْا صرحا لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين، وتفنّنوا في الغثّ والسمين، وتقاولوا في القلّ والكُثر، وتساجلوا في النظم والنثر ...