للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إن عصره لم يكن عصر إبداع أو إختراع.. وإنما كان عصر تجميع وتهذيب، ثم انتخاب وسرد، إن العلماء السابقين - منذ القرن الثالث الهجري إلى حوالي منتصف القرن الخامس - قتلوا كل هذه الموضوعات بحثا وتدقيقا، وتحليلا وتمحيصا، وتعمّقوا إلى أن توصّلوا إلى آراء كثيرة طيبة وجديدة، أما من جاء بعدهم فكان مجهودهم متواضعا؛ لم يكن في مقدورهم أن يضيفوا شيئا جديدا، ولكنه - نتيجة لما اكتسبوه من ثقافة - استطاعوا أن يختصروا ويهذبوا، وينتقوا ويوفِّقوا.. وفي حقيقة الأمر لم يستطيعوا الإتيان بجديد يذكر في مجال البحث.

من هنا نستطيع أن نقول: إن القاضي عياض كان جمّاعا ناقلا، مختصرا مهذِّبا لآراء السابقين، والدليل على ذلك قوله أحيانا: "وإلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين [١٤] " وقوله: "وقد اختلف أئمة أهل السنة [١٥] " وقوله: "وقد عدّ جماعة من الأئمة ومقلدي الأمة [١٦] "، وهو وإن استطاع أن يلبس ما نقله واختصره ثوبا جديدا، إلا أنه لم يستطع أن يخفي حقيقة صاحبه، أو يحجب وجه مؤلفه؛ نستطيع أن نسمع صوت الجاحظ من خلال الوجه الأوّل حين قال عن العرب: "ولهم الحجة البالغة والقوة الدامغة، القدح الناتج والمهيع الناهج..، لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قد حوَوْا فنونها واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعَلَوْا صرحه لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين، وتفننوا في الغثّ والسمين، وتقاولوا في القُلّ والكُثر، وتساجلوا في النظم والنثر.. [١٧] ".

ونستطيع أن نرى صورة الرماني من خلال آرائه البلاغية [١٨] ، ونستطيع أن نسمع صوت الخطّابي وهو يتحدث بعمق عن الوجه النفسي للإعجاز القرآني [١٩] ، كما نستطيع أن نقرأ ما كتبه الجرجاني والباقلاني عن نظم القرآن.. وهكذا.