العتاد كثير الجند، فلما رأى منهم ما رأى قال لهم: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوما أسفه منكم، وإنا معشر العرب سواء؛ لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، وأنا لم آتكم ولكنكم دعوتموني، اليوم علمت أن ريحكم ذاهبة وأنكم مغلبون، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول [١] .
وبلغ المغيرة بمقالته ما أراد، وحقّق لنفسه ما قصد، فوصلت مقالته إلى نفوس ظامئة إلى الحرية وإلى قلوب مطوية على ضغينة، وهي وإن تظاهرت بالرضا فما ذلك إلا لضعف حيلتها أو فقدان قيادتها، وقال المستضعفون: صدق والله العربي! وقال السادة: والله لقد رمى العربي بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه! ثم قالوا: قاتل الله من سبق منا؛ ما كان أحمقهم حين كانوا يصغّرون أمر هذه الأمة، ثم مازحه رستم ظنا منه أن المغيرة قد كره ما حصل من قومه، ثم مدّ رستم يده إلى كنانة المغيرة فأخرج منها سهما وقال له: ما هذه المغازل التي معك؟ فقال له المغيرة: ما ضرّ الجمرة ألا تكون طويلة؟! ثم قال: وما بال سيفك رثّا؟ قال: رثّ الكسوة حديد المضربة!، واستنبأه نبأ قومه، فقال مقالة صاحبيه، ولكنه تخير من اللفظ ما يثير الحميّة حتى يفضحه على المطاولة، وما ترك رستم إلا وهو متوعّد ومنذر.
ولما انصرف المغيرة خلا رستم بخاصته بعد أن رأى من أمر العربي الجدّ الجادّ فقال لهم: أما ترون من أمر هؤلاء القوم أنهم لم يختلفوا، وسلكوا طريقا واحدا ولزموا أمرا واحدا؟! هؤلاء والله الرجال صادقين كانوا أم كاذبين، والله لئن كان بلغ من أربهم وصونهم لسرهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ مما أرادوا منهم، ولئن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شيء.