للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أقول.. إن من أنواع التكرار –تكرار القصص، كقصة إبليس في السجود لآدم، وقصة موسى وغيره من الأنبياء. فقد ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعا من القرآن العظيم، وذكر قصة نوح في خمس وعشرون آية، وقصة موسى في سبعين آية، وإنما كررها- كما يقول صاحب كتاب ((العواصم من القواصم)) [٤٧] لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر. وسبب ذلك أمور:

إحداها: أنه إذا كرر القصة زاد فيها شيئا، ألا ترى أنه ذكر الحية في عصا موسى عليه السلام، وذكرها في موضع آخر ثعبانا، فقال تعالى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [٤٨] وقال سبحانه: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [٤٩] .

وهذه سمة من سمات البلغاء.. أن يكرر أحدهم في خطبته أو قصيدته كلمة لصفة زائدة.

الثانية: أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن، ثم يعود إلى أهله، ثم يهاجر بعده آخرون يحكون عنه ما نزل بعد صدور الأولين، وكان أكثر من آمن به مهاجريا، فلولا تكرر القصة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى آخرين، وكذلك سائر القصص.. فأراد الحق سبحانه وتعالى اشتراك الجميع فيها، فيكون فيه إفادة القوم، وزيادة تأكيد وتبصرة لآخرين وهم الحاضرون.. هكذا قال ابن الجوزي.

الثالثة: تسليته لقلب النبي –صلى الله عليه وسلم- مما اتفق للأنبياء مثله مع أممهم- قال تعالى: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [٥٠] .

الرابعة: إن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة، وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة.

الخامسة: قالها ابن فارس [٥١] –وهي أن الله تعالى أنزل هذا القرآن، وعجز القوم عن الإتيان بمثل آية لصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بين وأوضح الأمر في عجزهم، بأن كرر ذكر القصة في مواضع، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله، بأي نظم جاءوا بأي عبارة عبروا.