أن القرآن الكريم هو أصل الدين، ومنبع التشريع الحكيم، ودستور الإسلام، ولما كان الإسلام دينا عاما خالدا، ليس موقوتا بزمن معين، ولا بمكان محدد، بل هو عام شامل لكافة الخلائق، منذ بعث الله به نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مصداقا لقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً}[٤] لما كان الأمر كذلك فقد اقتضت حكمة الله حفظ كتابه وبقاءه كاملا غير منقوص صحيحا غير باطل، ضمانا لهذا العموم في الزمان والمكان وتحقيقا له.
ولما كانت الرسالات السابقة محلية موقوتة بزمان ومكان معينين فلم تكن هناك من حكمة في حفظ كتبها، وما كانت هذه الكتب السابقة على القرآن إلا خطوات تمهيدية مهدت للخطوة الأخيرة وللغرض النهائي وللكتاب العزيز الذي أوتي الإنسانية بعد أن بلغت رشدها، وأتي العقل بعد أن بلغ نضجه وعلمه، ولو أراد الله أن تكون هذه الكتب هداية للإنسانية عامة في كل مكان وآن، لحفظها وصانها ولحال دون تحريفها، ولذلك لم يحفظ الله إلا كتابه الخالد المنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
الحكمة الثانية: أن القرآن الكريم هو آية الإسلام الكبرى ومعجزته العظمى، فكان لابد في نظر الحكمة الإلهية من حفظه لتكون هذه المعجزة ملازمة لهذا الدين الخالد، باقية إلى جواره تؤيده وتعززه إلى قيام الساعة، حتى لا يكون لأحد عذر في ترك هذا الدين الأخير، الذي ختم الله به الأديان والشرائع، ولذلك اقتضت حكمته تعالى أن تكون معجزة هذا الدين صالحة للبقاء والخلود، فكانت دون سواها كلاما يتلى في أذن الدهر، وحديثا يقرأ على سمع الزمان، وكتب له الخلود فلم يذهب بذهاب الأيام، ولم يمت بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو قائم في فم الدنيا يحاج كل مكذب، ويتحدى كل منكر، ويدعو أمم العالم جمعاء إلى ما فيه من الهداية ...