للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم إن همته في طلب العلم جعلته يصرف وقته وهمه في تحصيله، مستسهلاً الصعاب متحملاً للشدائد, قانعاً باليسير، حتى إنه يحدثنا عن نفسه بأنه لا يجد ما يقتات به إلا كسرات الخبز الجاف، ولا يجد ما يأتدم به إلا الماء البارد، ولكنه مع هذه الحياة الخشنة لم يتطلع إلى ما في أيدي الناس ولم يذل نفسه لأحد قال: "ولقد كنت أصبح وليس لي ما آكل, وأمسي وليس لي ما آكل، ما أذلني الله لمخلوق قط، ولكنه ساق رزقي لصيانة عرضي ولم يعوزني شيئاً من الدنيا بل ساق إليّ مقدار الكفاية وأزيد" [٤] .

وأورث العلم في قلبه لذة فاقت كل لذة، وأنسته كل غصة قال: "ولقد كنت في مرحلة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب العلم وأقعد على نهر عيسى - نهر بغداد - فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها شربة وعين همتي لا ترى لذة إلا لذة تحصيل العلم" [٥] .

وقال أيضاً يخاطب ولده: "وما زال أبوك في طلب العلم، ولا خرج يطوف في البلدان كغيره من الوعاظ، ولا بعث رقعة إلى أحد يطلب منه شيئاً وأموره تجري على السداد [٦] ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً, وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} " [٧] .

وهكذا فليتأس الدعاة وطلاب العلم..

على الواحد منهم أن يمتلك نفسه ويعف، وينطلق من قيود الرغبة والرهبة, ويرتضي لونا من الحياة بعيداً عن ذل الطمع، وشهوة التنعم, وحب الدنيا, ولله در القائل:

أمتُّ مطامعي فأرحت نفسي

فإن النفس ما طمعت تهون

ومن قول علي بن عبد العزيز القاضي رحمه الله تعالى:

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي

لأخدم من لاقيت لكن لأخدما

أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة

إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم

ولو عظموه في النفوس لعُظما