وبعدئذ تأتي الرأفة والحنان من لدنه، حيث انفرد بصفات هو بها واحد، ليعطي العبد الذي قهره أمر دنيوي عذر التخلي عن الصوم ما بقي في قهره، فإذا ما زال كان فيه من حال، فليس عليه إلا صيام عدد ما غلب على تركه، ولحق في الأجر بمن لم يمنعوا أثناء الشهر وأدركوا معهم مقام الصائمين {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} بل وزادت رأفة الرؤوف بالذين يصومونه فعلاً يصاحب صومهم نوع من النصب والعنت، سواء كان ذلك جسدياً ككبر أو مرض خفيف ملازم، أو نفسياً كمجرد خوف الأم على رضيعها أو جنينها، وهو ما قالت عنه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ؛ لأن معنى الإطاقة إتيان الشيء بجهد، فهذا النوع وما يشبهه أبيح له الإفطار مقابل شيء زهيد، مدٌّ من أغلب ما يأكله ناس بلده، {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ولكن حسن التعامل مع المحسن سبحانه، يقتضي أن يكون المؤمن معه الله ذا وُدٍّ أكثر من المد، فدعته الآية إلى أن يزيد تطوعاً بأكثر من هذه الحفنة ما دام ذا ميسرة {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} فلن يكون الخير من المخلوق مقابلاً إلا بما يليق بالذي خلق {فَهُوَ خَيْرٌ لَه} ، بل ودعته الآية إلى خير هو أكثر من خير الزيادة على الحفنة، وهو القيام بذات الصوم ولو ببعض المشقة، ما لم تغلبه مشقته على أمره كما أسلفنا {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي ولو بتعب يتحمل، ويحبب سبحانه في الأخير ويرغب فيه قائلاً:{إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، إن كنتم تعلمون حقيقة هذا العمل وإثبات المثوبة لعامله فالحرص منكم على إدراكه أقرب وأوجب، فالصوم هو المختار على الفدية يا ذا الأعذار الخفيفة [٢] .