ولما كان الاعتكاف من أحلاف الصوم المشابهة له، لأن المعتكف صائم نهاره قائم ليله، إضافة إلى أنه صام عن كل الدنيا التي هي خارج المسجد، وأنه زهد فيها لما حبس نفسه فيه، وضمن هذه الدنيا التي تركها خلفه زوجته، ولأن الصيام يبيح المباشرة في الليل دون النهار، وحتى لا يظن ذلك أيضاً في الاعتكاف وهو أقرب العبادات إلى الصوم كما قلنا، فأفرد له توضيح خاص به غير ما أبيح في رمضان، وهو منع مباشرة النساء البتة في الاعتكاف ليلاً ونهاراً طول المدة المنْوية {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}(البقرة: ١٨٧) حيث كان المعتكف يغادر المسجد إلى بيته ليتغشى أهله ثم يعود ليعتكف، فينافي ذلك تبتل الاعتكاف والتفرغ لعبادة الله وقد ذهب إليه في بيته يستجديه رحماته، فإن كان ذلك قد وقع منكم قبل فلا يقع منكم بعد {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .
فبعد هذه الأحكام المحددة والتشريعات الميسرة، نحذركم من أن تتركوها, أو بزيادة أو نقص تقربوها {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا}(البقرة: ١٨٧) ، وكلمة (تقربوها) مرهبة حقاً، أي الويل لمن يضيف أو يحيف بأي شيء مهما قل، متعللاً بأن المعنى قريب، أو القصد متقارب، وهكذا مما نسمع الآن من قول ابتدع بعد أن أُتي بالبدع، وتأتي كلمة التقوى في النهاية كما أتت في البداية، ذلك لأن قصة الصوم كلها تقوى، لا يتجمل بها إلا من خشي الرحمن بالغيب، حيث كل العبادات ترى من الله والناس إلا الصوم، فقد تُرى الشفاه مطبقة ولكن الله رآها تتحرك بالمضغ متوارية، فلا يرجى من الصائم غير التقوى {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(البقرة: ١٨٧) ، هكذا كان صوام الماضي، اتقوا حتى أذلوا دنياهم ليعزوا أخراهم، فكان لهم من الكريم ما تمنوا.