لم أستطع بادي الرأي تفسير عملهم.. وخطر في بالي أنهم مجموعة من الضائعين الذين يتكاثرون هذه الأيام في الشوارع أوربة وحواضر أمريكة، قد أقبلوا على الشرق في سياحة ترفيهية، فهم يجوبون شوارع بومباي على هذا الوضع، إعراباً على تمردهم على الحضارة الغربية، التي أعطت الإنسان الغربي كل وسائل الرفاه. وسلبته مقابل ذلك كل أسباب الطمأنينة. إلا أني لم ألبث أن هديت إلى تفسير الصحيح حين أقبل رفيق رحلتي الدكتور ف. عبد الرحيم، فبين لي أن هؤلاء نموذج لكثيرين من الغربيين الذين فرغت قلوبهم من سكينة الإيمان فراحوا يهيمون على وجوههم، حتى احتضنهم دعاة الوثنية الهندية، فاعتنقوا بعض مذاهبها، ثم جاءوا إلى الهند ليمارسوا شعائر دياناتهم الجديدة على النحو الذي ترى.. فهم يؤدون هذه الحركات داخل المعابد، ولعلهم يريدون من إجرائها في الشوارع تذكير الناس بها ودعوتهم إلى إحيائها..
وسرعان ما وجدتني مشدوداً بما شاهدته من هذه الغرائب إلى التأمل في ما وراءها من عبر وأحداث:
لقد وثبت بي الذاكرة إلى منظر الطرقيين في العديد من ديار المسلمين، وقد تحلقوا حول (الراقص المولوى) يعزفون له ويقرعون وينشدون، وراح هذا يدور في وسطهم على قدم واحدة، كخذروف الوليد، وقد انفتحت (تنورته) الواسعة حتى أشبهت مظلة الطيار الهابط من الأعالي..
ثم تتابعت على الرؤى حتى وقفت بخيالي على واحدة منها لم تزل تعمل عملها في صدور الغافلين.. إنها صورة هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً فكان من بين مبتدعاتهم تلك الحلقات الأخرى، التي يتوسطها (قائد السيرك) فتأخذ في التمايل وفق إشارته، وقد تصاعدت من صدورها همهمات تبدأ واضحة باسم الله، ثم ما تنفك تتغلغل في الغموض حتى تستحيل زفيراً وشهيقاً لا مفهوم له، ثم لا تفتر ولا تهدأ إلى أن يأخذها الإرهاق، الذي يأخذ هؤلاء الراقصين في ردهة مطار بومباي..