إن الله- عز وجل- قد دعاهم إلى ضيافته، فنبذوا الدنيا وراء ظهورهم وجعلوها دبر آذانهم، وأسرعوا متلهفين يرجون رحمته ويخافون عذابه.
اليوم الثاني:
وهو يوم عرفات يقف الجميع بهذا الزي، الملك والسوقة، والغني والفقير يأبى الله أن يكونوا في هذا الموقف إلا على هذا النحو، لأن الله- عز وجل- لا يمنح رحمته ورضوانه إلا لمن استجاب نداءه، واتقى شح نفسه، وجعل الدنيا وسيلة للغاية الكبرى يوم يلقى الله.
وعلى عرفات يقف الحجاج جميعاً، ولابد أن يتواجدوا في وقت واحد يبتهلون خاشعين، ويمدون أكف الضراعة متذللين، تنبح الحناجر ملحة في الدعاء، وتفيض العيون بالدمع خشية الفضيحة يوم اللقاء، وفي هذه اللحظات ينخلع الإنسان تماماً من الدنيا، ويتعلق قلبه بالملأ الأعلى ويتجلى الله على أهل الموقف، ويباهي بهم ملائكته فيقول:
"انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة إن فيهم فلاناً مرهقاً وفلاناً، فيقول الله- عز وجل- قد غفرت لهم"[١] .
ولا يزال أهل عرفات في دعاء وابتهال، وتضرع وسؤال، يحلقون بأرواحهم في ملكوت السماء، ويحيون قلوبهم بالذكر والدعاء، وحتى إذا أوشكت الشمس على المغيب، وأخذ النهار يتوارى خلف الكثبان التي بللتها دموع الأوابين ووفق الليل بالأعتاب يدق بظلامه الرهيب أغلال الأبواب، ومؤذناً بالنفرة العظمى عندئذ تطوى الخيام، وترفع أدوات الشراب والطعام، ويثب الحجاج إلى السيارات في خفة نادرة وسرعة باهرة فإذا اختفت الشمس تماماً عن الأنظار، كان ذلك إيذاناً بالمغادرة فيتحرك هذا الجمع الغفير ليضرب في الأرض ويقضي ليله في جمع.