للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لله ما أبرع تلك الحركة العسكرية الرائعة هذه الآلاف المؤلفة من البشر تتحرك في ساعة واحدة، وتنتقل من مكان إلى مكان في ساعات. أرأيت مدينة بأكملها تنتقل في لحظات؟ أرأيت جيشاً يقارب المليون يؤدي هذه الحركة البارعة في ساعات؟؟..

إنه الحج المعسكر السنوي للمسلمين، ولله ما تحمل القوم من المشقات كم عانوا من لفح الشمس المحرقة وكم لاقوا من نصب الخيام وطيها، وتحميلها وتنزيلها، ولو رأيت الحافلات، وهي تتزاحم في الطرقات المحيطة بالحبال الشاهقة، وتكاد تلتحم حتى ترى كأنها خيط مد على سمت واحد إنك لتعجز أن تجد في الطرقات مع تعددها واتساعها موضع قدم وهناً تتلاحق أنفاس الحجاج، وتجف حلوقهم، وتيبس ألسنتهم ويجدون من العنت والإرهاق ما لم يخطر لهم على بال، حتى ليخيل إلى من يراهم على تلك الحال أنه لن يعود أحد منهم إلى الحج مرة ثانية.

كل ذلك وهم صابرون محتسبون، يطمعون في الأجر العظيم من الرب الرحيم، ولم تلبث الشهور تنطوي، والأيام أن تنقضي، وتعود على المسلمين أيام الحج بنفحاتها وخيراتها، حتى تجد أشد الناس تلهفاً على الحج هم حجاج السنوات الماضية. لقد نسوا كل هذه المشقات، وأحسوا أن شيئاً خفياً يلح عليهم من داخل نفوسهم، أن هيئوا وشدوا رحالكم لتسعدوا بنفحات ربكم. حول الكعبة، وعلى عرفات، وعند المشعر الحرام وأمام الجمرات.

أنهم يحسون أن الدوافع قوية، لا يستطيعون مقاومتها، ويشعرون أن الرغبة ملحة لا قبل لهم بالتخلص منها، ويعرض لهم الشيطان، فيذكرهم بما سيبذلون من جهد ومال، وما سيتحملون من مشقة وعنت، ولكن ذلك لا يضعف الدوافع، ولا يطفىء إلحاح الرغبة.