نعم، ما المال؟ ما الجهد؟ ما الأولاد؟ وما الأهل؟؟ إن هذا كله لا يساوي لحظة ينعم فيها الإنسان برحمة الله، فيشعر بنشوة القرب، ويحظى بلذة الأنس، إنهم ليذكرون هذه اللحظات المباركات التي يتجلى فيها الله على أهل عرفات فينسون كل المشقات ويقبلون على الله مضحين بكل غال ونفيس.
وبعد النفرة العظمى، وبعد هذا العناء المتواصل، يصل الحجيج إلى مزدلفة، فيصلون المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان واحد وإقامتين، ثم ينامون ولم يكن هذا النوم المبكر إلا استعداداً لاستيقاظ مبكر وتأهباً لتحمل أعباء اليوم الثالث، وتلك سنة أبي القاسم- صلى الله عليه وسلم- فلم يرو عنه أنه أحيا ليلة المزدلفة، روى جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أتى المزدلفة صلى المغرب والعشاء، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، ثم دفع قبل طلوع الشمس [٢] .
اليوم الثالث:
وهو يوم الحج الأكبر- يوم النحر [٣]- ويبدؤه الحجاج بالوقوف عند المشعر الحرام، وهناك تسكب العبرات، وتزداد الحسرات، وترفع إلى الله أكف الضراعة، وتلهج الألسن بالذكر والطاعة، تلبية لأمر الله {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}[٤] .
ومن هناك ينطلق الركب قاصدين جمرة العقبة بمنى، فيرمونها بسبع حصيات، وهذا الرمي رمز لانتصار الخير على الشر، وتأصل للفطرة على النحو الذي فطرها الله عليه، أليس الرمي إرغاماً للشيطان وطاعة للرحمن؟.
ثم يذبحون هديهم شكراً لله على فضله، وجزيل نعمه، وفي ذبح الهدي وقاية من الشح، وتمرد على البخل، وإعلان للطاعة المطلقة {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}[٥] .