وقد يلام عندئذ أو لا يلام، فدعونا الآن من مأساة بيت المقدس، ولنكن عند كلامنا المحدد بالآية، والنصارى طلبوا أن يجعلوا القبلة جهة المشرق، والمسلمون فرحوا بالتحول الجديد، فأصبح الأمر له ثلاث دعائم، لنأخذ من هذه الدعائم الثلاث كلمة {الْبِرَّ} في النهاية بعد ذلك، اليهود يريدون المغرب والنصارى يريدون المشرق، والمسلمون سروا بالبيت الحرام، وكل اعتقد صحة وجهته، ولابد أن يكون الحق في جانب واحد من الثلاثة، ولن يكون الحق إلا ما أنزله الحق عندما حدد الوجهة، ومع ذلك خشي أن يكون الأمر مجرد اتجاه إلى مكان، وليس اتجاهاً إلى من شمل سلطانه الزمان والمكان، فقال سبحانه ليدخل الفرق الثلاثة في الآية موجهاً القول إليهم جميعاً حتى إلى أصحاب الوجهة الحقة، وجهة البيت الحرام، فقد يتجهون هم أيضاً بأجسادهم إلى بناء الكعبة ينحنون ركوعاً ويخرون سجوداً، ولكن الوجهة ليست إلى الله في علاه، والعقيدة غير مصفاة، ويصبحون بذلك يؤدون الصلاة عادة وليست عبادة، وهنا لا يصبح الفرق كبيراً بينهم وبين من اتجهوا إلى المشرق أو المغرب، فلا بد من الجهة والوجهة وهنا يكون البر وليس دون ذلك، يوجد البر، فقال عز من قائل:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} فبدأت الآية بنفي جهتي النصارى واليهود شكلاً وموضوعاً فبقيت جهة من الثلاث لم تنف إشارة إلى أنها الحقة، ولكن لينقى حقها من كل كدر، ألزمت الآية أصحبها بسمات معينة كعقد لؤلؤى رائع إلى آخر كلماتها، والبر في تفسيره العام هو كل طيب يعتقد به أو يقال به أو يعمل به، وأول طيب يعتقد به هو بداية ما ذكرته الآية من أمر أهل البر، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} والإيمان بالله أمر طيب خفي يظهره قول طيب جلي ذكرته أكثر من آية {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} ، الآية ٢٤ من سورة إبراهيم والكلمة