على أن خضوع اليهود لم يتم مرة واحدة بعد هزيمتهم أمام المسلمين، بل كانت نفوسهم تنطوي على حقد شديد للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإنما اضطرهم إلى الخضوع عجزهم عن المقاومة؛ فهذه زينب بنت الحارث - امرأة سلام بن مشكم - أهدت شاة مسممة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد توقيع الصلح بينه وبين أهل خيبر واطمئنانه إليهم؛ فلما جلس هو وأصحابه ليأكلوها أخذ قطعة من ذراعها ولاكها؛ فلم يسغها فلفظها وقال:"إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم"، وكان بشر بن البراء قد تناول منها قطعة فساغها وازدردها؛ فدعا رسول الله بزينب فجاءت واعترفت وقالت:"لقد بلغت من قومي ما لم يخف عليك؛ فقلت إن كان ملكا استرحت منه وإن كان نبيا فسيخبر، ومات بشر من أكلته هذه".
وقد اختلف الرواة في شأن زينب؛ فقال أكثرهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنها والتمس لها العذر على فعلتها؛ لتأثرها بما أصاب زوجها، وذكر بعضهم أنها قتلت في بشر الذي مات مسموما.
ويغلب على الظن صحة الرواية الأولى؛ لأنها تتفق وما عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبول العذر، خصوصا من الضعفاء والرأفة بهم، ومن حبه للعفو إيثارا للسكينة والسلام، وتحرجا من سفك الدماء، واختيار أكثر الرواة لها.
وبمضي الزمن استسلم اليهود شيئا فشيئا، واعتادوا الخضوع والانقياد لحكم المسلمين الذين تركوهم على يهوديتهم وأباحوا لهم أداء شعائرهم، ولم يحاولوا أن يردوهم عن دينهم أو أن يتدخلوا في شؤونهم الخاصة، ولم يتعرضوا لحريتهم الشخصية، وحكموهم حكما عادلا نزيها.