للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تقدم أن الصحابة قد اعتمدوا على الحفظ في تلقي ما يأتيهم به النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم البعض أن قلة التدوين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعود بالدرجة الأولى إلى ندرة وسائل الكتابة، وأنا لست مع من يقول بذلك؛ لأنها لم تكن قليلة إلى هذا الحد الذي يبالغ فيه، وهي - على كل حال - قلة نسبية، قد تكون أحد العوامل في ترك كتابة الحديث، ولكنها بلا ريب ليست العامل الوحيد، فما منعت ندرة هذه الأدوات صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم من تجشم المشاق وركوب الصعاب في كتابة القرآن كله في اللخاف والعسب والأكتاف والأقناب وقطع الأديم، ولو أنهم أرادوا تدوينه مثل القرآن لفعلوا، ولكن الصحابة بتوجيه من نبيهم ومن تلقاء أنفسهم كانوا منصرفين إلى تلقي القرآن، مشغولين بجمعه في الصدور والسطور، وكان كتاب الله يستغرق جل أوقاتهم، كما يملك عليهم مشاعرهم، وحديث رسول الله حينئذ أكثر من أن يحصوه، فله في كل حادثة قول، وفي كل استفتاء توضيح، وفي كثير من الوحي القرآني تبيان وتفسير، فأنى للكتبة منهم الوقت لمتابعة الرسول عليه السلام في كتابة جميع ما يقوله أو يعمله أو يقر الناس عليه، خاصة وأن الكاتبين منهم قليل.

ومع ذلك قام بعض هؤلاء الكاتبين بتقيد جميع ما سمعه ورآه من النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرهم على ذلك حين أمن التباس السنة بالقرآن، على حين كتب أفراد آخرون أشياء قليلة، وظل سائرهم بين قارئ كاتب لكنه مشغول بالقرآن شغلا لا يتيح له كتابة الحديث، فغدا يسمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم ويعمل به ولا يجد الحاجة لتقييده، وبين أمي يحفظ من القرآن والحديث ما تيسر له في صدره، وهو ما كان عليه أكثر الصحابة في بدء الإسلام ومطلع فجره.