للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومعنى هذا وخلاصته أنه لا يوجد قط حادث من غير محدث، ولا موجود من غير موجد، وقد أصبح هذا المعنى الذي يحكم الواقع الملموس شيئا مؤكدا لا يتصور العقل خلافه، ولا يأبى إقراره إلا عقل عاجز عن الإدراك؛ لهذا وجدنا ذلك العربي الحصيف الذي أدرك هذه السببية بفطرته يقول قولته الشهيرة: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير؛ ليل داج، ونهار ساج وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على اللطيف الخبير؟ "، إذن فلابد لكل حادث من محدث، ولكل موجود من موجد، ومحال أن يحدث شئ ذاته أو يوجد مخلوق بغير خالق.

وإلى هذا أشار رب العزة والجلال في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} - الطور -؛ فهذه الآية تشير إلى عدم إمكان وجود أي حادث بغير محدث، أو وجود أي مخلوق بدون خالق،

ثم فإن منكر الخالق ينحني رأسه، ويرغم أنفه على الإقرار بخالقه وخالق هذا الكون؛ إذ قد أكد الواقع والعقل أن الإنسان لا يمكن أن يخلق نفسه فضلا عن غيره، ولو استطاع أن يخلق نفسه لصورها كما يشاء، ولأودعها كل صفات الكمال بداية ونهاية، ولما جعلها عرضة لأن يعتريها شئ مما يعتري النفس البشرية من نقص أو ضعف، ولما رأينا الإنسان يجوع ويعطش ويتعب وينام ويمرض ويموت، بل يبقى على حاله لا يعتريه تغير ولا تبديل، ولكن الواقع الذي يراه ويحسه الجميع ويتيقنه ولا يشك فيه أحد أن الإنسان يبدأ نطفة، ويمر بأطوار مختلفة، حتى ما إذا تم نضجه خرج من بطن أمه ضعيفا هزيلا لا يعلم من أمر هذه الحياة شيئا، تم يتدرج في النمو حتى يبلغ قوة شبابه، ثم يبدأ في الانحلال بالشيخوخة والضعف، ثم تنتهي حياته فيموت ويقبر في التراب، ثم يتحول بعد ذلك إلى عظام نخرة، ثم سيبعثه الله بعد ذلك حين يشاء، تلك الحقائق ثابتة لا يقوى على إنكارها منكر مهما أوتي من حجج وبيان.