للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كما أن نفيه من البلد سلاح رهيب يستطيع - صلى الله عليه وسلم - أن يستغله ضدهم فيألب عليهم القبائل، وهم جميعا على أتم استعداد ليستمعوا إليه لولا أن قريشا تحول بينهم وببن ذلكَ، فإذا ما خلا له الجو للالتقاء بهم في حرية من غير ضغط ولا تشويش لا شك أنه سيقنعهم فيكونون معه عليهم.

لهذا رأى الجميع في رأي أبى جهل الفرصة التي ينشدونها، فيجب ألا يضيعوها، وغادروا دار الندوة وقد أجمعوا أمرهم على تنفيذ اقتراح أبي جهل.

ومكروا ومكر الله:

أوحى الله إلى نبيه ما بيت القوم له، وأمره بالهجرة، وكان الطريق قد تمهد من قبل ببيعة الأنصار، وهجرة المسلمين إلى المدينة المنورة، وقد وجدوا فيها وطنا بدلا من وطنهم، وألفوا فيها أهلا خيرا من أهلهم، وعاشوا فيها آمنين على أرواحهم وإيمانهم.

وبدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم- يواجه الموقف الجديد في ثبات لا يزعزعه التردد، وبحزم لا يوهنه اللين، وكان عليه أن يواجه كيدهم بكيد هو أنكى منه وأشد، وكان عليه أن يقابل تخطيطهم بتخطيط هو أدق منه وأتقن.

لقد خطط القوم وفكروا، وناقشوا الأمر وقلبوه على كل وجوهه ثم أجمعوا أمرهم على ما رأوه يحقق آمالهم، فهل يجوز أن يواجه الرسول - صلى الله عليه وسلم- هذا الاهتمام بالكسل، والتخطيط بالتواكل؟

كلا، لا بد أن يولي الأمر اهتماما أكثر من اهتمامهم، لأنه متعلق بعقيدته أولا، وبشخصه ثانيا، كما لا بد أن يواجه تخطيطهم بتخطيط يفسد عليهم حيلتهم، ويحبط كيدهم.

وإننا لنعجب غاية العجب إذا وقفنا على خطة الرسول - صلى الله عليه وسلم- التي واجه بها خطة القوم، وإن المحققين ليقفون مدهوشين من روعة تلك الخطة وإحكامها، ولن أتعرض لقصة الهجرة هنا إلا بالقدر الذي أستنبط منه العبرة، وأستخلص منه الدروس التي يحتاجها المسلم في طريقه الطويل الشاق إلى غايته السامية الغالية، فالقصة برمتها مسطورة في كتب السيرة والتاريخ.