وتنازع المشركون أمرهم بينهم، هذا القائف يقول: قد دخلا هنا، وهذا العنكبوت والحمام يوحي إليهم بكذب القائف، حتى قالوا: كيف يدخل الغار ولم يتكسر بيض الحمام، ولم يتمزق نسج العناكب، ولو صح أنهما دخلا قبل بيض الحمام ونسج العنكبوت. فهل يتمكن العنكبوت من نسج ذلكَ في تلك المدة الوجيزة، إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يغب عنهم إلا منذ يوم فقط، فكيف يستطيع العنكبوت نسج ذلك كله حتى يغطي فم الغار في يوم؟ ولو صح ببض الحمام في هذا اليوم فإن ذلك يستحيل على العنكبوت.
لقد حسب المشركون الأمر بحسابهم المادي المعتاد، ولم يدروا أن لله جنود السماوات والأرض، وأن الخوارق طوع إرادته -سبحانه - {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[٣٣] .
وبهذا الأمر الكريم نسجت العناكب فوق ما يتصوره عقل الإنسان، وباضت الحمائم على وجه الغار، وهكذا صرف الله عن نبيه أعداءه بأوهى الأسباب، وأضعف المخلوقات، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}[٣٤] .
إلى المدينة:
مضت على الرسول الأيام الثلاثة وهو في الغار، وهدأ الطلب ويئس المشركون، واطمأن الدليل فوافاهما براحلتيهما، وغادر رسول الله الغار مع صاحبه في رعاية الله وحفظه.
وسلك الدليل بهما طريقا لا يعرفها كثير من أهل مكة إمعانا في تضليل المشركين، وضمانا لسلامة المهاجرين، وكان السائرون في هذا الدرب أربعة: رسول الله، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر صحبهما ليقوم بخدمتهما، ثم عبد الله بن أريقط دليلهما.
أخذ الدليل بهما طريق الساحل، وسار أمامهما، وجد الناس في طلبهما رغبة في الحصول على الجائزة الثمينة التي رصدتها قريش لمن يأتي بهما أو بأحدهما حيا أو ميتا.