للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولقد شاء الله جلت حكمته أن يستأثر عرب الجزيرة بهذه النعمة منذ قيام هذا البيت المطهر دون سائر أرجاء العالم، فكان لهم كالواحة الخضراء في جديب الصحارى، يأوون إليه كلما أحاط بهم الروع، وضاق عليهم الرحب، فيستروحون في ظله نفحات الأمن الذي عز توافره في غيره. حتى ليلقى الرجل في كنفه قاتل أبيه أو أخيه أو ولده. فلا يفكر في النيل منه، توقيرا لبيت ربه وذكرى أبويه وبانييه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام - بل إن الجاني ليحصَن نفسه من عدوان غرمائه بمجرد اتخاذه قلادة من لحاء الحرم، يطوَّق بها عنقه فلا تمتد إليه يد بما يكره ما دام يحمل أثرا من ذلك الشعار، شعار السلام،.. ومن هنا كان الخروج من هذا المألوف شذوذا عن قيم الفطرة في أوساط أولئك الجاهليين، حتى ليعتبرون مجرد الإقدام عليه ضربا من الفجور المجمع على إنكاره. وهكذا يكون العدوان على حرمة البيت العتيق في عرف أهل الجاهلية، عدوانا على الحياة نفسها لا على الإنسان وحده.

وقد حاول مشركو قريش أن يسوغوا إحجامهم عن قبول الدعوة الإسلامية بالخوف من انقلاب العرب عليهم، ظنا منهم أن تقديس العرب لذلك البيت إنما مرده إلى تقديس قريش لَأْلهتهم المنصوبة عليه {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} فجاء الرد الإلهي على ذلك الزعم تذكيرا بأن الفضل لله وحده في توفير كل هذا الخير لجيران بيت {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا..} (٢٨- ٧٥) .

وما أجل وأروع تلك الصورة التي يتملاها العقل المؤمن في قوله تعالى لهؤلاء المجادلين بالباطل في سورة العنكبوت {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ..} .