للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بدأ عذابه بحمل جثة أخيه على ظهره، متنقلا بها هنا وهناك لا يدري ما يفعل بها، ورائحتها التي تعفنت لازمته ليستنشقها في ليله ونهاره، وظل هكذا زمنا طويلا أوصله بعض المفسرين إلى سنة، وهو يحمل وزره على ظهره حزينا وحسيرا، ولما أخذ من هذا العذاب المؤقت إلى أن يبلغ العذاب المؤبد، أراد الله أن تصان كرامة الميت وأن تحفظ حرمته، خاصة الصالحين من أمثال هابيل، فعلم طريقة مواراة الأموات وإلى يوم القيامة، وذلك بواسطة غراب قتل زميله تم نبش بمنقاره ورجليه قبرا له ودفنه فيه، واختيار الغراب لهذا الأمر لعله - والله أعلم- لسببين: أولهما أن الغراب من أكثر الطيور غدرا وقتلا خاصة للطيور الأضعف منه، ولهذا كان من الخمس الفواسق التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بقتلها في حديث صحيح، وثاني السببين أن الغراب حيوان وليس في عقل الإنسان، ولكنه عرف كيف يخفي جريمته على الفور، والإنسان فُضح بجريمته أولا ثم تعلم بعد ذلك من الغراب، {قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِين} ، من النادمين على قتل أخيه من غير ذنب ارتكبه، ومن النادمين على عدم دفنها كما فعل الغراب عقب القتل، حيث شقي بحملها ورائحتها طويلا، وفوق أن الندم نفعه منعدم، فهو يقطع الأوصال ويطحن عزائم الرجال، ويصبحهم ويمسيهم في هموم تطاردهم العمر كله، ولعذاب الآخرة أخزى بعدئذ.

وكان أن ترتب على هذه الحادثة البشعة، أن يجعل الله من أحق حقوق الإنسان أن تصان نفسه من طيش اللئام ونزق الإجرام، فلم يكتف سبحانه بأن تراق دماء القاتل مقابل ما أراق من دماء، وإنما اعتبره من حيث قدر الجرم كأنه قتل عباده أجمعين {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} ليضخم هذا الأمر ويجعله من الهوى ما يرعب به الكواسر القتلة من بني الإنسان.