فإذا كان هذا هو حال القانون الوضعي ومصادره - وهو محدود الدائرة - وإذا احتاج القانون الوضعي لدراسة كل هذه العلوم وسبر أغوارها، فكيف بالشريعة الإسلامية وأصولها وهي غير منحصرة في هذه الحياة الحاضرة بل تتعداها لتضمن مصلحة الحياة الآخرة أيضا، لا شك أنها أوسع نطاقا وأشمل بحيث تشمل النظرة إلى مصادرها العلوم الأساسية التي تستمد منها صيانة المصلحة في هذه الحياة ثم تنفرد بالعلوم الأخرى وعلى رأسها القرآن الكريم والسنة النبوية واللغة العربية التي هي أساس فهم القرآن الكريم.
فعلم أصول الفقه ليس كما يتصوره البعض، علما محصورا في تعريفات ومناقشات لفظية، وعلما جافا غير أخاذ بحيث لا يتسع ليشبع نهم النفوس، فهو عكس ذلك تماما كما حاولنا توضيح ذلك في الفقرات الفائتة، وكما يدرك ذلك علماء الأصول الذين عاشوا تجربة دراسته وتدريسه.
أسباب عدم وضوح الرؤية:
كثير من الدارسين لعلم الأصول تتعسر عليهم الرؤية الواضحة لحقيقة هذا العلم ولخصوبته، وعليه فهم يعتبرونه - كما أشرنا أعلاه - علما يتسم بالجفاف والتعقيد والانحصار في مناقشات لفظية أو منطقية ثم ردود على المناقشات وردود على الردود وهلم جرا، ثم بعد ذلك تكون الحصيلة ضئيلة، وهذا المفهوم يبعث في نفوسهم مللا من دراسة الأصول ونفورا منه، وربما مر بنا هذا الإحساس في عهد الطلب، وبذلك ينصرف الدارسون عن هذا العلم العظيم الغزير المليء بالفوائد والتي تتجلى فيه مناهج بحث وضعها علماؤنا السابقون لم يسبق لها مثيل، ونادرا ما تجد أحدا يقبل على هذا العلم إلا مضطرا لأداء امتحان مثلا، ثم لا تجده بعد ذلك يتناول مرجعا من مراجع الأصول ليطلع فيه طائعا مختارا مستسيغا له متعمقا في معانيه.
هذا الشعور الذي ينتاب المبتدئ في دراسة هذا العلم، وغالبا ما يظل معه خلال حياته العلمية، له أسباب نذكر منها بعضا في الفقرات التالية: