ثم يبين الإمام الشاطبي أن هذا الأمر لم ينقل عن أهل الصدر الأول، لأن ما في بيت المال كافيا لسد نفقات الدولة، لكثرة الإيرادات، والقصد في المصروفات فكانت رواتب العمال والولاة لا تتجاوز حد الكفاية، والجند يكفيهم القليل والخلفاء أنفسهم كانوا متعففين عن أموال المسلمين، وكان ولاتهم على الأمصار والأقاليم متمسكين بدينهم يحذرون الإسراف في مال الدولة، ولا يضيعون مال الجباية في غير المصالح العامة، ولذلك حسنت حالة الدولة المالية، ولم تكن بها حاجة إلى فرض ضرائب يقول الشاطبي:"وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين، لاتساع بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى ووجه المصالح هنا ظاهر، فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار، وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله، فالذين يحذرون الدواهي لو تنقطع عنهم الشوكة، يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها، فضلا عن اليسير منها، فإذا عوض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق بهم، يأخذ البعض من أموالهم فلا يتمارى في ترجيح الثاني على الأول، وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر في الشواهد".
ونفس هذا المعنى ذكره الإمام الغزالي في كتابيه شفاء العليل والمستصفى [٢١] .
ويقول ابن حزم في كتابه المحلى:"إنه يجب على أغنياء كل بلدة أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنّهم من المطر، والصيف، وعيون المارة"[٢٢] .