إنك بحسك الأدبي وذوقك الفني تدرك أن موسيقى الألفاظ واحدة في الآية من أولها إلى آخرها، وتقسيم الفواصل لا يختلف فيها، ونلاحظ أن أعمال الآخرة وردت في الآية بصيغة الأمر وأعمال الدنيا جاءت بصيغة النهي، ولعل ذلك لكثرة ما يقع الناس في المحظورات؛ فجاءت صيغة النهي للتحذير من الوقوع في مخالب الدنيا ومفاتنها التي تشغل الناس عن أعمال الآخرة؛ فناسب أن تأتي بصيغة الأمر لأعمال الآخرة {وَابْتَغِ} .. {وَأَحْسِنْ} ، وناسب أن تأتي أعمال الدنيا بصيغة النهي {وَلا تَنْسَ} .. {وَلا تَبْغِ} .
وإنك لتلاحظ هذا المزج في كثير من آيات القرآن الكريم، وتلمسه واضحا في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ}[٢] .
فإن الآية الكريمة جمعت بين العبادة ورمزت لها بالصلاة، وبين الأعمال العادية وأشارت إليها بالنسك وهو الذبيحة، ثم أجلات فجعلت حياة المؤمن ومماته لله، وذكرت التوحيد بنفي الشرك.
وهكذا تتناول الآية أعمال الدين الخالصة، والأعمال التي هي في الأصل عمل دنيوي حولها الإسلام إلى عبادة، ثم ذكر التوحيد صراحة وهو العقيدة التي لا يقبل من الإنسان سواها.
وآية أخرى يقول تبارك وتعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[٣] ، والآية كما ترى تجمع بين الصلاة التي هي أهم أركان الإيمان بعد الشهادتين، وبين الذبح الذي هو أمر لا حرج على من لم يفعله ولا إثم، والصلاة في الآية وإن كان المقصود بها صلاة العيد إلا أنها من جنس الفريضة التي فرضها الله على المؤمنين، وهي في الأصل عمل ديني لا يشوبه شائبة من شوائب الدنيا.
والخصية الثالثة هي تساوي الناس جميعا أمام نظمها: فليس هناك عبيد وأحرار، ولا سادة وعوام، ولا نبلاء ودهماء، بل الكل في ذات الله سواء، يجمعهم الإيمان بالله، ويفاضل بينهم العمل الصالح، ويتنافسون في ميدان التقوى الرحب الفسيح.