* وقد استمر ذلك الأدب عربيَّ اللسان ربانيَّ المضمون، حتى بدأ الخلل في مسيرة الحياة السياسية، فاختلف حَمَلَةُ الرسالة حتى الاقتتال، وكان مستحيلا على الأدب أن يقف على الحياد في ذلك المعترك الصاخب، فإذا هو مأخوذ بِرَهَجِهِ، يضطرب بين المختلفين في تحيز ترك أثَره عميقاً في كثير من شعره ونثره على السواء، ثم تتابعت الأحداث، وتفاقمت المشكلات، وإذا نحن خلال عصور الأدب التالية تلقاء ركامٍ من الكلام، قليل منه المتماسك في نطاقِ المواريثِ العليُا، وأكثره الزائغ الخطى هنا وهناك.. حتى إن الأديب الواحد ليجمع في نتاجه بين الضربين المتضادين من الألوان، فهو في بعضه إسلامي الرؤية لا يفارق خَطَّ النور، ولكنه في بعضه الآخر مدخول الهوية لا يمت إلى المنظور القرآني بأي صلة، والمؤسف بل المبكي أن المسيرة الأدب العربي -بخاصة- واصلت حركتها في هذا الطريق المضطرب، فلم تُقَيَّضْ لها القوة التي تردها إلى مسلك السليم، حتى إذا فوجئت بطلائع الزحف الغربي الدافق، لم تكن لديها المقومات القادرة على مواجهته بالوعي الذي يفرق بين الغث والسمين، فكان من نتائج هذه المواجهة تراكم العقبات في طريق الفكر الإسلامي، وطُغيان الضجيج الصادر عن المبهورين بتلك الطلائع.. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام جيلٍ لا يرى سبيلاً للتقدم إلاَّ بالإعراض الكلي عن المنهج الإسلامي الأصيل، والذوبان التام في تيارات الفكر الواغل الدخيل.
* وقد بلغت هذه الدفعة الرهيبة أشدها في أعقاب النكبة الكبرى التي نزلت بعالم الإسلام أثر سقوط الخلافة، إذا انفرط عِقد المجموعةِ الإسلامية، فتوزعتها النزعات الوافدة مع الزحف الغربي، فإذا الأمة أمم، والأسرة الواحدة فرق، لا تقل عدداً ولا خطراً عن الفِرَق التي أفرزتها الثقافات الدخلية خلال قرون الدولة العباسية..