هذا منظر الحمر الوحشية وقد ظهر أول نور الفجر فأظهرها ولا يزال الظلام يحجب باقي نور الفجر ومنظر العين تلمع من وراء طحلبها، وقد قصدتها هذا الحمر للشرب في هذا الوقت لا تسمع إلا صخب ضفادعها وحيتانها، والفرق بين الوصفين أنك تحس في وصف ذي الرمة بمشهد كامل وشخص كأنه واقف يتأمل هذا المشهد بينما لا تحس في وصف البحتري بهذا الانفصال لأن البحتري قدر على أن ينقل لك المشهد وانفعال نفسه به، لقد ولَّد معنى ذي الرمة، وجعل عيسه متحركة تنصل به من دجى الليل، وهذه الحركة كافية في أن تنقل لنا انفعاله.
هذا والشاعر الثاني الذي نظر إليه البحتري هنا هو الراعي النميري في قوله يصف العيس:
قلق الفؤوس إذا أردن نصولاَ
في مهمه قلقت به هاماتها
حيث شبه حركة هامات الإبل حين ترقل بحركة الفؤوس التي توشك أن تنصل فولَّد البحتري معنى الراعي وجعل النصول للعيس نفسها والله تعالى أعلم.
هذا ومن مظاهر انفعاله الخافق، كثرة وصفه لالتماع الأشياء حين تنعكس في شيء آخر كقوله يصف الطيف:
والشمس تلمع في جناح الطائر
أهوى فأسعف بالتحية خلسة
فهو هنا يسجل انفعاله بانعكاس ضوء الشمس في جناح الطائر، وهذا كما ترى وقت الشروق قبل أن تظهر الشمس لعينيك فأنت لا ترى الشمس وتظنها لم تشرق بعد، ولكنك إذا نظرت وقد مرَّ طائر محلق في السماء فإنك سترى التماع الشمس في جناحه وهذا من معاني البحتري المبتكرة التي تدل على دقة ملاحظته؛ ومن الأمثلة أيضا قوله:
وشياً يكاد على الألحاظ يلتهب
هذا الربيع يُسدي من زخارفه
نلاحظ هنا أنه يعبر عن انعكاس الأشياء المضيئة في الألحاظ بالالتهاب، وهو يفعل هذا في غير ما موضع، كقوله يصف ياقوتة حمراء في يد الخليفة: