كما كان البحتري يجيد وصف التلفت وفي التلفت حركات وخفقات، مثل قوله:
فلم يبق إلا لفتة المتذكر
ولما خطونا دجلة انصرم الهوى
إذ تحس فيه خفقة اللفتة التي يبعثها التذكر وحسبك في هذا قوله:
وما التفت المشتاق إلا لينْظُر
نظرت وضمَّت جانبيَّ التفاتة
هذه خفقة انتظمت الجسم كله ومن هذا أيضا قوله:
رأيت الهوى نفس بطيئ نزوعها
إذا انصرفت يوما بعطفيه لفتةٌ
ونُنَبِه هنا على موضع التاء في لفتة وفي التفاتة، إذ أن البحتري مولع بهذا الخاصة في المصادر، كما رأينا فما سبق في قوله: إجلابة، وكما في قوله:
لم أنصرف عنه انصرافة عاتب
إِمَّا تعذَّرَ نائل من منعم
حيث ذكر الهاء في المصدر وهو انصراف فقال انصرافة وكقوله:
وأسرعهم إمضاءة حين يعزم
أمدَّ الرجال لبثه حين يرتئ
وقوله:
بأحمد بن عليٍّ ثم تنقلب
فما تزيد على إلمامة خُلْسُ
وقد لاحظ المعري هذا وجعله من خصائص شاعرنا حيث يقول [١١] : "أبو عبادة يدخل الهاء على المصادر كثيراً وقلما يوجد ذلك في أشعار المحدثين وإدخال الهاء على المصادر عريق فصيح"اهـ.
ونحن نميل إلى تفسير هذه الظاهرة بما يدخلها في حاقِّ عناية البحتري بوصف الانفعالات الخافقة السريعة، إذ في المصدر ذي الهاء ما يوحي بالسرعة كأنه أخذ جزء منه وهو دلالته على المرَّة وسيتضح لك هذا إذا رجعت إلى الأمثلة السابقة، أو إلى غيرها من كلامه، وارجع على سبيل المثال إلى قوله:
نظرت وضحت جانبيَّ التفاتة الخ.
لترى أثر التاء في سرعة الالتفاتة بخلاف ما لو جاء المصدر بغير تاء فقيل: التفات، وبعد.
أيها القارئ الكريم، هذه هي شاعرية البحتري تجلت في أنغامه المطربة وانفعالاته الخافقة، فكان حقاً كما قال ابن الأثير عنه [١٢] : "وأما أبو عبادة فإنَّه أحسن سبك اللفظ على المعنى وأراد أن يشعر فغنَّى".