وفي العصر العباسي لا نجد انعطافا حاداً، بل نجد تطويراً أوسع من تطوير العصر الأموي يشمل الشكل والمحتوى معاً، ففي الشكل صفت لغة القصيدة وبلغت درجة عالية من الرشاقة والعذوبة عند عدد من الشعراء، لتلائم الحياة العباسية الجديدة وتناسب الذوق الموسيقي الشائع، وكثرت المقطوعات الصغيرة المنظومة على الأوزان الخفيفة والمجزوءة، وانتعشت بحور كانت ضارمة من قبل كالمضارم والمجتث والمقتضب [٤] ، وظهر المتدارك الذي يقال إن الأخفش استدركه على الخليل، ولحق القوافي بعض التجديد فظهر المزدوج والمسمط في فترة مبكرة، ويذكر الجاحظ أن بشاراً كان صاحب مزدوج [٥] . كما نجد في دواوين أبي العتاهية وبشر بن المعتمر وابن المعتز عدة مزدوجات. ويذهب الدكتور شوقي ضيف إلى أن المزدوج هو الذي رشح لظهور الرباعيات في الشعرين العربي الفارسي [٦] .
ولعل أوسع تجديد شعري عرفه العصر العباسي هو التجديد البديعي وقد سماه معظم النقاد القدماء " شعر المحدثين ". ويجمع الدارسين -قديماً حديثاً- على أن بشار بن برد رائد هذا المذهب، وأنه كان يحافظ على توازن دقيق بين العناصر الجديدة والعناصر التقليدية. وأن مسلم بن الوليد طور المذهب من بعده وجعل الشعر صنعة مجهدة، لابد فبها من التريث والتدقيق، ولابد فيها من الصقل والتجويد، وأن أبا تمام أخذ الشوط من بعدهما فبلغ به الغاية.
ويُعَدًّ لمذهب البديع -إن صحت تسميته مذهباً- قدرته على استيعاب الفلسفة ومعظم جوانب الثقافة الأخرى في العصر العباسي وبراعته في المواءمة بين العناصر الفنية والعناصر الفكرية في القصيدة فالأدوات البديعية من جناس وطباق ومشاكلة ... الخ تمتزج بالفكرة الفلسفية وتخدمها، والاستعارة تأخذ أطرافاً من المنطق، والقواعد الفلسفية تؤثر على الصورة الفنية عامة، وعلى لغة القصيدة، وتجعل اللون العقلي أقوى من اللون العاطفي. وهذا الضرب من الصناعة الفنية لم يؤلفه الشعر العربي من قبل.