للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لذا لم يكن من الممكن أن يستمر النقد على مقاييس اللغويين "الاجتماجية"وبدا أن اتجاهاً مناقضاً سينمو ويأخذ بناصية النقد. ويخبرنا تاريخ النقد العربي أن هذا الاتجاه ظهر على أيدي النقاد المنهجيين الأوائل كابن سلام والجاحظ وابن قتيبة والآمدي والجرجاني وابن رشيق وسواهم. وقد سعى هؤلاء النقاد لإنصاف الشعر المحدث وإسقاط مبدأ "الأفضلية المطلقة للقديم"فأعلن ابن قتيبة في مقدمة مصنفه الكبير "الشعر والشعراء" أنه يرفض مقياس اللغويين المجحف، وأنه سيتخذ مقياساً جديداً يقوم على "الجودة الفنية". قال:

"ولم أسلك فيما ذكرته من شعر كل شاعر مختاراً له سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين وأعطيت كلاً حقه. فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله. ولم يقصر الله العلم والشعر على زمن دون زمن، ولا خص بهم قوماً دون قوم، بل جعل ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً، في عصره، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثاله يعدون محدثين، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: "لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى هممت بروايته" [١٥] .

وكذلك فعل النقاد المنهجيون الآخرون، فقد اتخذوا "الجودة الفنية"مقياساً يحكمون به على الشعر، لا فرق بين قديمه وحديثه، ولا ميزة لأحدهما على الآخر، ولأول مرة يزاحم شعر المحدثين شعر الأقدمين في مصنفات الأدب والشعر وعند الرواة، ويزيد من هذه المزاحمة ظهور شعراء ذوي مواهب فذة ترفد الرواة والمصنفين بقصائد رائعة كالبحتري وأبي تمام وابن الرومي وأبي العتاهية وأبي فراس والمتنبي وغيرهم.