لا تتسع هذه الرسالة لأن أذكر غيره، ولا يتسع له الوقت، فمذ قتل قابيل هابيل وأنا أتمنى على الله أن ييسر سبيل لقياك، وأن يتح فرصة الاتصال بك، لأشكو إليك همومي، وأسمعك نحيبي وأنيني، وأشكرك في أفراحي ومراحي، وأستشيرك في كثير من أمري، فاليوم، وقد يسر الله الفرصة وأتاح، أجدني غير ذات قدرة، ولست بذات وقت، لأن أكتب إليك كثيرا.
لقد كان من نعم الله عليك ـ أيها الأخ الكريم ـ أن لم يذلل سطحك لأبناء آدم مهادا ومعاشا، عليهم إذا ما ألموا بك أن يتزودوا بالأنفاس التي يتنفسون، وبالطعام الذي يطعمون، وبالشراب الذي يشربون، ليس من البخل في شيء، ولا من العار، ألا يسمعوا منك أهلا ولا مرحبا، نعم، إنهم أبنائي، مني خلقوا، وإليّ يعودون، أطيب نفسا إذا طابوا، وأسوء حالا إذا ساءوا، ولكن هذه الدماء التي رويت منها بقاعي حتى شرقت، وهذه الجثث التي طعمت منها أرجائي حتى تخمت، وهذا الظلم الذي يأخذ به الأقوياء الضعفاء، وهذا الكيد الذي يكيده ذوو المعارف والتجارب والقوة لذوي الجهالة والفطرة والضعف، هذا كله نزع ما في قلبي من حنان الأمهات، وعطف الوالدات.
الخير في كثير، والرزق على وجهي واسع، وعطاء الله ماله من نفاد، ولكن كثيرا من أبنائي يستأثرون بالخير على غير حاجة، ويحرمون الآخرين على ما بهم من مغبة وضر، وتود طوائف شتى أن تكون ذات الأمر والنهي، إن حقا وإن باطلا، ليس لأحد معها سلطان.
ما أوغر صدري، وحرق حشاي، إلاّ أولئك الذين يشعلون الفتن في كل مكان، ثم يقولون: ما أقبح دخانها، ويثيرون الحرب والخصام بين الشعوب ثم يبكون الأمن والسلام، ويسلبون الناس خيراتهم، ويسيمون فيهم الأمراض، ثم يمنون عليهم قليلا من عطاء، وشيئا من دواء، أي بنوة هذه؟! وأي أبناء هؤلاء؟! أي أم تطيب لها الحياة، وهي لا تنام على غير أنين، ولا تستيقظ على غير جراح!!