للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نشأ بينكم، وقضى طفولته وشبابه وكهولته بين ظهْرانيكم، وأنتم تعرفونه حق المعرفة، فهو صاحبكم، تعرفونه، ويؤكد بعضكم أنه لم يكذب قط، بل تعرفون أنه لم ينحرف لحظة واحدة عما يقتضيه العقل والحكمة، وحسن الروية، وبعد النظر.

أبعد أربعين سنة عاشها بينكم، وهو من أوسطكم دارا، وأشرفكم نسبا، وأكرمكم أباً وأما، يصدق في القول، ويحفظ الأمانة، ويحكم- حين تحكمونه- بأعدل حكم، وأنتم في كل ذلك تصحبونه في غدوه ورواحه، ومَنْشطه ومكرهه. وتلقبونه بالصادق الأمين دون أن يطلب منكم أن تثنوا عليه، أو ترفعوه قدره، وإنما أنطقكم بذلك واقعه.

أبعد كل هذا تتهمونه بما تعتقدون أنه منه براء، وأنه إذا كانت هناك صفة أبعد ما تكون عن إنسان فهي صفة الجنون يوصف بها محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟!!.

وليس بعجيب أن يتخبط الكافرون المعاندون، فقد جاء في القرآن الكريم: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذاريات: آية ٥٢) .

فهي سنة الله تعالى مع أنبيائه، ومع أقوامهم.

ولكن كان على كفار مكة أن يتفكروا، وأن يطيلوا التفكير قبل أن يلقوا هذه التهمة على أعقل العقلاء، وأحكم الحكماء: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} . (المؤمنون: آية ٦٨، ٦٩) .

بلى: هم يعرفون رسولهم، وإنما أنكروا وجحدوا وادَّعوا عِنادا وطغيانا، وتكبروا، وتجبروا، كما أخبر سبحانه بآية كريمة واضحة بعد آيات (الذاريات) السابقة: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} ليس التواصي هو سبب هذه الادعاءات الباطلة، وإنما هو الطغيان بدليل (بل) الإضرابية.