الأول: التعبير باللسان، وكان يمكن أن يقال:{الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} ، ولكن التعبير باللسان هو لب هذا البرهان، فلو عدل عنه إلى التعبير بالذي مثلا لكان للمشركين أن يقولوا: وما العجب في أن يأخذ محمد هذه المعاني من هذا الأعجمي؟ إن المعاني شركة بين العجم والعرب، أو يقولوا: إنه أعجمي ولكنه عالم بالعربية، فأخذ عليهم القرآن الطريق، وسدّ أمامهم منافذ الجدل، لأنهم لا يستطيعون أن يقولوا إن صاحب اللسان الأعجمي يملى على العربي مثل هذا الكتاب، وزاد هذا الإفحام قوة وصف اللسان بأنه (مبين) بعد وصفه بأنه (عربي) وهم لا يمارون في أن هاتين الصفتين من أخص خصائص القرآن.
على أنه حتى لو ادَّعوا أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- أخذ معان القرآن من هذا الغلام لكانوا مبطلين حتما عند أنفسهم، فإنهم أعقل من أن يتوهموا إن هذه التشريعات والحكم والمواعظ، وسائر المعاني الأخرى الرائعة تصدر عن غلام أو غلمان يقومون بالصناعة في بلد لم يعرف- آنذاك- بأنه بيئة علمية.
ويا للعجب. لو كان القرآن من وحي هذا الأعجمي فكيف عجزوا هم عن أن يعارضوه بأقصر سورة من مثله، وهم فرسان الكلام، وأبطال اللّسن والفصاحة؟.
الثاني: التعبير- هنا- بالفعل (يُلحدون) ، ومعناه يميلون عن القصد، يشيرون إشارة المائل إلى الباطل، الحائد عن الحق.
وفيه لطيفتان:
(إحداهما) : أنه مجرد ميْل وإشارة، كأنهم حين قالوا: إنما يعلمه بشر لم يكونوا يقصدون في واقع الأمر ما يقتضيه التعلم والتعليم من تردد المتعلم على المعلم، ومن طول مكثه عنده، ولم يكن في أذهانهم- حقيقة- ما يكون بين الطالب والأستاذ من وضع كل منهما في موضعه المعروف المتقرر، وإنما هي إشارة ولا غير، وإشارة بعيدة عن الصواب مغرقة في الباطل.
(ثانيتهما) : أن مادة هذا الفعل توقع في النفس معناها الأول، وهو الإلحاد وإيحاؤه معروف.