أما عن قوة حجته فكتاب الشريف الرضى المعروف بنهج البلاغة قد حوى الكثير من خطب علي ورسائله، وحجاجه ومناظراته وهي تفيض بالبلاغة والحكمة وفصل الخطاب، فليرجع إلى ذلك الكتاب من شاء ليقف على كمال علي في بيانه وبلاغته وقوة حجته، وهي حاجة الداعي الناجح في دعوته، ولنذكر هنا وصفا له رضي الله عنه وصفه به ضرار الصدائي بأمر من معاوية، إذ روى ابن عبد البر في الاستيعاب أن معاوية رضي الله عنه قال يوما لضرار الصدائي: يا ضرار صف لي عليا فقال: أعفني يا أمير المؤمنين. قال: لتصفنه، قال: أما إذ لابد من وصفه, فكان والله بعيد المدى- شديد القوى، يقول فضلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، ويستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته, وكان غزير الغيرة طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما حسن، وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقرب المساكين، ولا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد أنه لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى سدوله، وغارت نجومه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا غري غيري، إلي تعرضت أم إلي تشوقت! هيهات هيهات! قد باينتك ثلاثا لا رجعة فيها, فعمرك قصير, وخطرك قليل, آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق!!!
فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك. فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها وهو في حجرها.... أو قال واحدها في حجرها....
فمن هذا الوصف الصادق تتجلى كمالات علي رضي الله عنه النفسية التي هي موضع الاقتداء، ومحط الائتساء. إنها علم وحلم وإيمان وتقوى وكياسة، وحسن سياسة، شجاعة قلب، ورجاحة عقل، زهد في الدنيا شديد ورغبة في الآخرة وحب فيها أكيد.