وعند الترمذي وابن ماجة والحاكم عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا"، رمز له السيوطي في الجامع الصغير بالصحة، وقال شارحه المناوي:"قال الترمذي: حسن صحيح وقال الحاكم صحيح وأقره الذهبي ورواه النسائي عنه أيضا"(٥-٣١١) مناوي.
ولنقف قليلا متأملين في معنى هذا الحديث فالطير تعرف مصالحها ومضارها وتسعى لحصول الأولى ودفع الثانية، لكنها ليست كالآدميين تعرف الأشياء بالتفصيل، فهي تطير من أكنانها في أرض الله لا تدري ماذا تصيب في يومها، فيسهل الله أرزاقها وأرزاق أفراخها الصغار التي لا حول لها ولا قوة، فترجع وقد شبعت وتزودت، وكذلك الآدمي إذا سعى لحصول رزقه وتوكل على ربه سهل له رزقه؛ فالتوكل الحقيقي هو التفويض الكامل لجميع الشؤون الدينية والدنيوية إلى الله سبحانه مع فعل السبب والاعتماد على الله في حصول السبب بدليل ما في هذا الحديث.
فالطير التي هي المشبه به لم تبق في أكنانها حتى يأتيها رزقها، وإنما تخرج منها جياعا متنقلة من مكان إلى آخر حتى يرزقها الله فترجع شباعا.
ولنتأمل بعض آيات القرآن الكريم التي يحفظها العامي كالعالم، ويقرؤها كل منا مرارا في اليوم في كل ركعة من صلواتنا فرضا كانت أو نفلا لنجد أنه لابد من الجمع بين الأمرين: فعل السبب والاعتماد على الله والاستعانة به في حصول المسبب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم} الخ، فكل مصل يقصد من صلاته - بعد امتثال ربه - ثوابه بدخول الجنة فالعبادة سبب ودخول الجنة ورضا الله مسبب، ولكنه لا يعتمد على مجرد المسبب بل يعتمد على الله مع ذلك ويستعين به في ذلك ويسأله الهداية ولهذا يقول:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم} .