وحديث آخر يثير الدهشة والعجب في هذه الغزوة، ومع جيش العسرة التي كانت آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، إذ افتقد المسلمون الماء فأغاثهم الله بفضل وضوئه صلى الله عليه وسلم، فقد كان مع أبي قتادة أداوة ماء توضأ منها رسول الله وفضلت فضلة, فقال الرسول:"يا أبا قتادة، احتفظ بما في الأداوة والركوة, فإن لهما شأنا" ثم صلى الفجر بعد طلوع الشمس [٢٦] فقرأ بالمائدة، فلما انصرفنا بعد الصلاة قال:"أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر رشدوا"، وكان الجيش قد سبق سائرا نحو المدينة فأراد كل من أبي بكر وعمر أن ينزل الجيش في موضع الماء فأبوا عليهما, ولكنهم فقدوا الماء بعد ذلك فنزلوا على غير ماء بفلاة من الأرض.
ركب رسول الله فلحق بالجيش عند زوال الشمس، فوجد الجيش قد لحقه عطش شديد، حتى كادت تنقطع أعناق الرجال والخيل عطشا. فلما أبصر الرسول حالهم وما هم عليه من الشدة، دعا بالركوة من أبي قتادة فأفرغ ما في الاداوة فيها. ثم وضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه، وأقبل الناس فاستقوا وفاض الماء حتى ترووا وأرووا خيلهم وركابهم وإن كان في العسكر اثنا عشر ألف بعير، والخيل عشرة آلاف، والناس ثلاثون ألفا, فظهر سر قول رسول الله لأبي قتادة "احتفظ بما فيهما فإن لهما شأنا"[٢٧] .
وقد دعا صلى الله عليه وسلم لراوية ماء اشتراها أُسيد بن حضير من امرأة من (بَلّى)[٢٨] . في الطريق فأتى بها إلى الرسول فقال للناس:"هلموا أسقيتكم".. فلم يبق معهم سقاء إلا ملأوه, ثم دعا بركائبهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت وانبسط الماء حتى يصف عليه المئة والمئتان [٢٩] . وهكذا تحول العسر يسرا، وكأن الله سبحانه أراد أن يُثَبِّتَ المؤمنين ويلزم المنافقين الحجة، ويؤيد رسوله في آخر غزواته بما لا يسع أحداً إنكاره.