ويذكر المؤرخون أن سكان تبوك من الروم وعاملة وجذام هربوا عندما بلغهم وصوله صلى الله عليه وسلم. وذلك راجع إلى ما ظهر عند أول احتكاك فعلي بين الروم والمسلمين العرب في غزوة مؤتة, فقد حدث بعد مقتل أمرائها الثلاثة أن أخذ الراية خالد بن الوليد, وكان الله قد جَلّى لنبيه ميدان المعركة فقال:"ثم أخذ الراية خالد بن الوليد، اللهم إنه سيف من سيوفك أنت تنصره". ثم قال:"الآن حمي الوطيس". فقتل المسلمون من الروم وحلفائهم من العرب مقتلة لم يقتلها قوم، وهزم الله العدو وأظهر المسلمين [٣٢] .
فقد شهد الروم أن المسلم يريد أن يموت في سبيل الله ولا يعنيه كيف مات ما دام قد قتل عددا قبل استشهاده. ولأن المسلم كان في ذروة حماسته لدينه على حين كان الرومي ولو أنه محارب مدرب، إلا أنه لم يكن متحمسا دينيا وذلك للنزاع بين المذاهب المسيحية، فضلا عن أن الحرب مع الفرس كانت قد قضت على خيرة المحاربين الرومان، بالإضافة إلى أنهم لا يقاتلون إلا في قرى محصنة أو من وراء جُدُر.
أقام الرسول صلى الله عليه وسلم وجيش العسرة على حدود الإمبراطورية البيزنطية [٣٣] ، عشرين يوما على أرجح الأقوال، يتحدى من يشاء أن ينازله أو يقاومه، وقصد من بقائه هذه المدة الطويلة أن يعمل على كفالة وضمان حدود الجزيرة العربية في الشمال، حتى لا يتخطاها من بعد ذلك أحد [٣٤] .
وكان يوحنا بن رؤبة صاحب أيله (العقبة) أحد الحكام الموالين للروم على حدود الجزيرة العربية, فأنذره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يذعن أو يغزوه، فاقبل يوحنا، وعلى صدره صليب من ذهب, وقدم والهدايا معه، وتقدم بالطاعة، فصالح الرسول وأعطاه الجزية [٣٥] . كما صالح الرسول أهل جرباء وأذرح ومقتا فقدموا الجزية رمزا للخضوع والإذعان وكتب لهم الرسول كتبا بالأمان [٣٦] .