لم يكن بعد انسحاب الروم خوف من هجومهم المباشر, ولكن خشي الرسول انتقاض أكيدر بن عبد الملك الكندي النصراني أمير دومة الجندل، ومعاونة جيوش الروم إذا جاءت من ناحيته, وتأتي أهمية دومة الجندل، أن حولها جموع القبائل الكثيرة العدد والمسلحة بأسلحة الرومان, فكان لا بد من إخضاعه لتأمين منطقته.
لذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد من تبوك ومعه أربعمائة وعشرون فارسا إلى أكيدر وأمره بأن يعتقله ولا يقتله ويأتي به أسيرا. ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أن خالدا قال: يا رسول الله كيف لي به وهو وسط بلاد كلب، وإنما أنا في عدد يسير فقال له:"إنك ستجده يصيد البقر فتأخذه فلا تقتله وائت به إلي"[٣٧] . وما يظن أحد إلا أن الصيد يكون بعيداً عن الحصون والعمران, ولكن خيل السرية المسلمة الممتثلة لأمر رسوله الله، المجاهدة في سبيل إعلاء كلمة الله، سارت بقيادة خالد نحو الحصن, إذ أين يبحث عنه في مسارح الصيد ومشاربه ووهاد الصحراء؟.
قَدم خالد حتى إذا كان من حصن دومة بمنظر العين، ربض ينتظر غِرّة فيهجم، وكان من عادته أن لا يبيت إلا على تعبئة, وأعطاه الله بصيرة بالحرب نافذة, لَبِث حتى مضى جزء من الليل، فإذا بقول رسول الله يتحقق!..ِ
كانت ليلة مقمرة مضيئة، وكان أكيدر على سطح قصره وحصنه ومعه امرأته، فأقبلت البقر الوحشية إلى قصر أكيدر جماعة تحك بقرونها باب الحصن تستنزل صاحبه ... فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله. قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا أحد.