إن تأثير الفكر الوافد في الشعر التعليمي لا يعدو أن يكون هو التأثير ذاته أثره في الخمريات وشعر اللهو والمجون، والزهد ... الخ في هذا العصر، وكل أولئك كان موجودا في العصور السابقة لهذا العصر، ولم يعز أحد ابتكارها وابتداعها للعصر العباسي، مع ذلك فلا ينكر أحد أنها في هذا الوقت قد زيدت مساحتها ومدت الرقعة التي تشغلها، وأنه أضيف إلى الصورة أشياء وألوان، حتى لقد ينخدع كثيرون بأن كل ما هناك جديد مبتكر.. والشعر التعليمي لم يكن بدعا في ذلك؛ فهو قد تأثر بالعصر وظروفه وملابساته، وبما كان يموج فيه من فكر وثقافة ومعرفة متعددة المصادر والينابيع.. ولقد بانت في هذا العصر ملامح وحدود كثير من العلوم، واتضحت معالم كثير من المعارف، فأخذ الشعراء منذئذ يتناولون هذه المعارف والفنون بالنظم شعرا؛ فظن الظانون أن المضمون ما دام جديدا أو شبه جديد فلا بد أن يكون هذا الشكل الذي قدم فيه جديدا كذلك!..
والمسألة في نظرهم بدت على الصورة الآتية: إن كليلة ودمنة يمثل جانبا من الثقافة الجديدة الوافدة الدخيلة على الأدب العربي، وقام أبان اللاحقي الفارسي بما أوتي من الفاتنة، فافتتن الناس بها افتتانا ... إذن؛ فالشعر التعليمي الذي نظم به هذا الكتاب الوافد، وافد أيضا، أو من نتاج الثقافة الوافدة!..
وهذه النتيجة ليست صحيحة!..
إلى هنا رأينا كيف اتخذ الشعر التعليمي صورا متعددة وجديدة ... ومما نلحظه: أن الشعراء في هذا قد آثروا بحر الرجز المصرع –غالبا وفي أكثر الأحوال خصوصا في العصور التي تلت العصر العباسي- لأنه بزحافاته يسهل تشكيل الكلام، ولأنه أخف وقعا، وأسهل حفظا، وأبقى في الذاكرة ... ولذا فإن السابقين قد التفتوا إلى أن الشعر بموسيقاه وإيقاعه ألطف وأوقع في النفس، وأخف على السمع، وأسرع رسوخا في الذاكرة، مع أن هذا اللون من النظم خال من مقومات الشعر، وهي العاصفة والخيال وروعة الأسلوب!..