وقال بعض من خالف في ذلك: لا يلزم من غمس الذباب موته، فقد يغمس برفق فلا يموت، والحي لا ينجس ما يقع فيه كما صرح البغوي باستنباطه من هذا الحديث. وقال أبو الطيب الطبري: لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث بيان النجاسة والطهارة وإنما قصد بيان التداوي من ضرر الذباب، وكذا لم يقصد بالنهي عن الصلاة في معاطن الإبل والإذن في مراح الغنم طهارة ولا نجاسة، وإنما أشار إلى أن الخشوع لا يوجد مع الإبل دون الغنم.
قلت: وهو كلام صحيح، إلا أنه لا يمتنع أن يستنبط منه حكم آخر، بأن الأمر بغمسه يتناول صورا منها أن يغمر محترزا عن موته كما هو المدعى هنا، وأن لا يحترز بل يغمسه مات أو لم يمت. ويتناول ما لو كان الطعام حارا، فإن الغالب أنه في هذه الصورة يموت بخلاف الطعام البارد، فلما لم يقع التقييد حمل على العموم لكنه فيه نظر لأنه مطلق يصدق بصورة فإذا قام الدليل على صورة معينة حمل عليها.
واستشكل ابن دقيق العيد إلحاق غير الذباب به في الحكم المذكور بطريق أخرى فقال: ورد النص في الذباب فعدوه إلى كل ما لا نفس له سائلة، وفيه نظر، لجواز أن تكون العلة في الذباب قاصرة وهي عموم البلوى به، وهذه مستنبطة، أو التعليل بأن في أحد جناحيه داء وفي الأخرى شفاء، وهي منصوصة وهذان المعنيان لا يوجدان في غيره، فيبعد كون العلة مجرد كونه لا دم له سائل بل الذي يظهر أنه جزء علة لا علة كاملة. انتهى.
وقال ابن القيم عن هذا الحديث: هو دليل ظاهر الدلالة جدا على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع فإنه لا ينجسه وهذا قول جمهور العلماء ولا يعرف في السلف مخالف في ذلك، ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمقله وهو غمسه في الطعام، وهو يموت في ذلك لا سيما إذا كان الطعام حارا فلو كان ينجسه لكان أمر بإفساد الطعام، وهو صلى الله عليه وسلم أمر بإصلاحه.