ولا يقدح في دلالة هذه النصوص السنيَّة أن نصوصا سنيَّة أخرى عارضتها في ظاهرها حيث جاءت تمنع استعمال الرأي في الشرع، فالتوفيق بين النصوص المبيحة لاستعمال الرأي والمانعة لاستعماله ممكن بحيث تقبل جميع هذه النصوص المبيحة والمانعة، هذا إذا لم نتعرض لتضعيف بعضها.
وجملة الملاحظات التي يمكن أن نبديها حول هذه النصوص السنيّة المجيزة لاستعمال العقل في الشرع تنحصر فيما يلي:
أولاً: أن ما أوردناه من شواهد من السنة النبوية وإن كانت من أخبار الآحاد إلا أنها تضافرت كثير من الشواهد الأخرى من السنة فأكدت تجويز السنة استعمال الرأي في الشريعة عند الضرورة، أي عند عدم وجود النص في الحادثة وقد تلقى أكثر العلماء هذه الأحاديث بالقبول واستشهدوا بها في هذا المقام.
ثانياً: الأحاديث التي أوردها المعارضون لاستعمال الرأي في الشريعة- على افتراض صحتها- لا تنهض دليلا على منع استعمال الرأي في الشريعة، وذلك أن هذه الأحاديث وردت في ذم استعمال الرأي القائم على الهوى أو المعارض للنصوص أو القائم على الجهل. وهذا النوع من الرأي مرفوض عند الجميع، فالذين جوزوا استعمال الرأي في الشرع لم يجوزوه على إطلاقه بل جوزوه بقيود حيث لا نص ولا تعارض مع النص ولا هوى ولا جهل هذا بجانب وجود الضرورة الداعية لإيجاد الحكم.
ثالثاً: هذه الأحاديث النبوية التي أوردناها وما ورد في معناها تجيز استعمال الرأي بوجوهه المختلفة المشروعة التي تعرض لبيانها علماء الأصول في كتبهم من قياس ومصالح وغيرها.
ونحن لا نرى ما يرى بعض العلماء من أن الأولى عدم الاستدلال بهذه الأحاديث على جواز الرأي طالما أنها معارضة بأحاديث أخرى تنهي عن استعمال الرأي في الشرع، بحجة أن جميعها أخبار آحاد ولا يمكن ترجيح طرف على الآخر. فكما أوضحنا في السطور السابقة فإن التوفيق بين النوعين من الأحاديث ممكن، فلا معنى لاطراحها وترك الاستدلال بها.