ودامت المعركة على هذا النحو بضعة عشر يوما [١٠] ، تتراوح فيه المعارك بين الفريقين دون أن يتحقق نصر لأحدهما ينتهي به القتال، وأغلب الظن أن الروم قد أظهروا براعة وتفانيا في كريون لم يعرف عنهم من قبل، وقد داخل الخوف قلوب المسلمين من تلك النتيجة المجهولة طوال تلك الفترة التي دارت فيها المعركة حتى أضطر المسلمون لأن يصلوا صلاة الخوف، عن يزيد بن أبي حبيب أن عمرو بن العاص صلى يومئذ صلاة الخوف [١١] .
على أن ضراوة المعركة وشراستها لم توهن المسلمين، ولم تقلل من حماسهم، بل قد زادتهم قوة على قوتهم وحماسا فوق حماسهم حتى روى المؤرخون أن عمرو بن العاص كان قد سلم اللواء لوردان مولاه، وجعل على المقدمة ابنه عبد الله، وقد أصيب عبد الله ابن عمرو بن العاص يومئذ بإصابات بليغة حتى أخذ دمه يسيل من أنحاء جسمه، فلما اشتدت به جراحه قال: ياوردان لو تقهقرت قليلا نصيب الروح.
قال وردان، وهو يتقدم: وقد هيجه الشوق إلى الجنة، فرأى أنها لا تنال إلا بالتقدم وكأنه تمثل قول الشاعر:
لنفسي حياة مثل أن أتقدم
تأخرت استبق الحياة فلم أجد
لهذا قال لعبد الله: الروح تريد؟ الروح أمامك، وليس خلفك [١٢] .
وهنا هزت هذه الكلمات قلب عبد الله، فاندفع يقاتل عدو الله غير عابئ بما ينزف منه من دماء، وما يلم به من آلام، إن ريح الجنة قد هبت نسماتها، وإن حورها قد تهيئن لإستقبال الشهداء، وولدانها قد استعدوا لاستقبال النزلاء فهل هناك روح غير هذا؟ إنه الروح الحقيقي الذي أخبر عنه القرآن الكريم {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ}(الواقعة الآية: ٨٨،٨٩)
وعلم عمرو بما أصاب ولده من الجراح فأرسل إليه رسولا يسأله عن جراحه، فقال عبد الله: