تركت مسارح اللهو ومراتع الصبا, تركت فراشي الوثير, يغطيه الصوف والحرير, تركت الطعام الهنيء والشراب المريء, تركت أسمار الصيف الغافية على أضواء القمر ونسمات الليل المتبردة, تركت مجالس الشتاء الهادئة الدافئة على أنفاس المواقد, وتركت المحاضرات والمحاضرين ودراسة القانون, وكم تركت وتركت ... تركت هذا كله غير آسف, تركته مسرعا إلى مسارح الوحش ووكنات الطير, أتنقل في الجبال, وأهبط الأودية, دون أن تضل بي الشعاب والثنايا, أو تتنكر لي المغاور والكهوف, لا أبالي أن افترش الثرى, وأن أتوسد الحجر, وأن أبيت على الطوى, أعدو في صبيحة كل يوم سبعة أميال أو تزيد, دون أن أشكو أو يسمح لي بالشكوى, لم أعد أعرف الكنّ في زمهرير الشتاء, ولا القيلولة في هواجر الصيف, وسيّان لديّ أن أسير في غسق الليل وأن أسير في وضح النهار.
لعلك تتساءلين من إشفاق وعجب, وأنت تضعين كفّاً على خد, وتقولين: أني لك هذا -يابنيّ- وأنت على ما أنت عليه؟!
ما أسرع ما تغيرت يا أمّ عمّا تعهدين!! إن فتاك الذي كان يمور في الشحم واللحم كخراف العيد المعلوفة قد سقط عنه شحمه ولحمه وأصبح عوداً صليبياً من عيدان السنديان, هيهات أن ينثني أو يتكسر.
لا شئ يستهويني هذه الأيام مثل إطلاق الرصاص, وضرب المدافع, وتفجير القنابل, والفتكات الخاطفة بالسلاح الأبيض.
ما أكثر ما أحتضن السلاح وأقلبه بين يدي! ثم أقبله بلهفة وحنان, وأنا أقول: غداً غداً سترسل المنايا إلى كل معتد كفّار, إلى أولئك الذين في آذانهم وقر, وعلى أبصارهم غشاوة، أولئك الذين لا يفهمون الكلمات المطبوعة, ولا الألفاظ المسموعة, غداً غداً ستكتب لهم سطوراً من الجثث وحروفاً من الأشلاء مغموسة بالدماء, ستكتبها على القمم والسفوح وفي بطون الأودية, على التلال والسهول وجوانب الطرق.
غداً غداً أيها السلاح ستريني ما وعدتني, وأريك ما وعدتك.
أمّاه: