ولعل عمراً أدرك بفراسته العسكرية أن من تكون له هذه القوة لا يطلب الصلح، ولعله كشف الخديعة بهذا الحس العبقري، ولو أضفنا إلى ذلك إدراك المسلمين دائما للحقيقة الني لا تغرب عن بالهم وهي أنهم لا يغلبون بقوة ولا كثرة، ولا ينتصرون بعدد ولا عدد، وإنما يغلبون عدوهم بنصر الله لهم مهما قل عددهم وكثر عدوهم.
يمكننا أن نقوله إن عمرا رفض الصلح مع المقوقس في الوقت الذي كان المسلمون في حاجة ملحة إليه لتأكده أن الإسكندرية أصبحت في حالة لا يمكنها معها المقاومة والصمود، لهذا كتب إلى المقوقس "إنا قد رأينا ما صنعت، وما بالكثرة غلبنا من غلبنا، فقد ليقنا هرقل ملككم فكان من أمره ما كان"فقال المقوقس لأصحابه: قد صدق هؤلاء القوم، أخرجوا من دار مملكته حنى أدخلوه القسطنطينية، فنحن أولى بالإذعان، فأغلظوا له القول، وأبوا إلا المحاربة [٢٣] .
كان الروم يعتقدون أن ما لديهم من السلاح والرجال والتموين كاف لصد المسلمين، بل كانوا يعتقدون أكثر من ذلك، كان يعتقدون أن القسطنطينية ستظل تمدهم بما يلزمهم من الذخيرة والرجال والطعام وهم لا يريدون أكثر من ذلك للتصدي لزحف المسلمين وإيقاف تحركهم نحو المدينة لهذا سفهوا رأي المقوقس، وأغلظوا له القول، وأبو إلا المحاربة.
ولكن سرعان ما خاب أملهم، وفشلت خطتهم، حيث انقطعت الإمدادات، وكاد ما بأيديهم أن ينفذ، وراحوا يستمدون العاصمة دون جدوى، فقد كانت العاصمة في حاجة لمن يمدها ليخلصها من الفوضى التي أصابتها بعد موت هرقل، بل كان القصر نفسه في مسيس الحاجة إلى من ينقذه من الإضطراب المستعر في داخله، والدسائس التي كانت تحاك تحت سقفه.