أحست حامية الإسكندرية بكل ذلك، وأدركت أنها أصبحت في موقف حرج لا تحسد عليه، ولعلها ندمت على خطئها حين رفضت ما عرض المقوقس عليها من أمر الصلح، ولا شك أنها أيقنت بما سيحل بها من الدمار والخراب نتيجة لإنقطاع المدد، وقلة الطعام، وتفش الأوجاع والآلام في الوقت الذي ينعم فيه المسلمون بحرية الحركة، وتوفر الميرة، وعظيم الثقة في نصر الله.
كان ذلك كله يدور حول الإسكندرية في الوقت الذي كان الخليفة في المدينة ينتظر أخبار المعركة ويتلهف إلى استماع أنبائها، ولما لم يصل إليه شيء عن ذلك، واستبطأ الأمر، كتب إلى عمرو:
"أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلون منذ سنتين وما ذاك إلا أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، فإن الله - تبارك وتعالى - لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف إلا أن يكون غيرهم ما غير غيرهم.
فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس، وحثهم على قتال عدوهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومر الناس جميعا أن يكون لهم صدمة واحدة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم" [٢٤] .
إن كتاب الخليفة يدل دلالة صادقة على مدى ضيقه بتأخر النصر، إن هؤلاء الجنود هم هم الذين فتح الله على أيديهم أمنع الحصون وأقوى المعاقل، ودعم به الجهاد وقواه، وهم هم الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الله، وخرجوا من بلادهم لا يبتغون إلا وجه الله، وتركوا نسائهم وعيالهم لينصروا دين الله، فما بال النصر يتأخر عليهم هكذا؟ وما بال الإسكندرية تستعصي عليهم فلم يستطيعوا فتحها.