بينما نجد القرآن الكريم يسلك هذا المسلك، إذا بالمتكلمين يسلكون لإِثبات حدوث العالم طريقاً صعب المنال حتى على المتخصصين، فضَلاً عن الجمهور، وذلك لاصطلاحاتهم التي بنوا عليها حدوث العالم، فهم يقولون مثلاً: العالم جواهر وأعراض، وقد يستدل على إثبات الصانع بكل واحد منهما، إما بحدوثه أَو بإمكانه، والأعراض بعضها حادث بالمشاهدة، كالضوء بعد الظلمة والوجود بعد العدم والحركة بعد السكون، وبعضها بالدليل، وهذه الأعراض تقوم بالجواهر، فدل حدوثها على حدوث الجواهر.
فهذه المقدمات يصعب فهمها على الإِنسان.
فما الجوهر؟ وما العرض؟ مثلا. لقد اختلف المفكرون في تحديد كل منهما اختلافا بيناً.
فهل يمكن أن يدْرَك كل واحد منهما بالحس إدراكاً مباشراً، كما يدرك الإنسان حدوث أعيان السحاب والماء؟ وأعراض تصريف الرياح؟؟.
أو أنه يحتاج إلى الاستدلال على وجود الجواهر، وعلى تعلق الأعراض بها، إذ أنها لا تنفك عنها في نظرهم، ثم يقيم الدليل على حدوث الأعراض، ثم على حدوث الجواهر، لقيام الأعراض بها، ويثبت كل ذلك أولاً، فإذا ثبت له ذلك استدل على أن لها محدثاً ثانياً.
الواقع أنهم يذكرون هذه المقدمات، ليستدلوا بها على إثبات حدوث الجواهر، والجَوْهر المقصود به الذاتْ المتحيزة، مبني على نظرية الجواهر الفردة، وهو التي تقول: إن العالم مكون من ذرات، أَي من أجزاء لا تتجزأ، ثم من اجتماع تلك الذرات تتكون الأجسام، فالذي يحدث في الأجسام هو تجمعها [٢٠] ، والتجمع عرض.
أما حدوث الجواهر فيعلم بالاستدلال بحدوث تلك الأعراض، لا بمشاهدة حدوث الأعيان ذاتها، وذلك لأن الجواهر التي تكونت منها هذه الأجسام قبلت الاجتماع والافتراق، وما كانت صفته كذلك فهو حادث، على قولهم ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.