ومن ثم فقد أصبحت هجرة المسلمين إلى الحبشة في هذا الظرف حدثا تاريخيا هاما في مراحل الدعوة الإسلامية، إذ أن اختيار الحبشة كان خطوة موفقة من خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم الواعية لأن ذلك ينطوي على معرفة تامة بحقيقة الوضع في الجزيرة العربية وأطرافها المجاورة وظروف الدول المحيطة بها من الفرس والروم، فقد كانت القبائل العربية في الجزيرة مرتبطة ارتباطا وثيقا بقريش تجاريا ودينيا وكان لبعضها أحلاف ومعاهدات، والمعروف أن لقريش رحلة تجارية إلى الشام ورحلة تجارية إلى اليمن، وكانت كل رحلة عبارة عن مدينة تجارية متحركة فقد بلغت كل رحلة ألف بعير أو تزيد تحمل سلعا وبضائع متنوعة بعضها محلى من إنتاج أهل الجزيرة وبعضها مستورد من الشام واليمن والهند بل من أوربا وبلاد الصين وكلها تصب في مكة وتصنف من بعد إلى الجهات التي تكون سوقا لها تبعا للخبرة التجارية وفن التسويق ونوع الرحلة، ولقريش أسواق مشهورة بعد مكة [٨] . ومن ثم جاءت الهجرة إلى الحبشة رغم ما فيها من مشقة، ولكنها بلا شك رمز صادق للعزم والإصرار على المبدأ. ولذلك لا يمكن قبول استنتاجات (وات) watt حول أسباب هذه الهجرة فهو يذكر أن من ضمن دوافعها الأساسية أغراض اقتصادية- وإلا في نظره لماذا أقام هؤلاء المهاجرون في الحبشة حتى عندما انتفت الأسباب التي ذكرتها كتب السيرة في مكة بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة [٩] وهو يتناسى هنا عودة بعض المهاجرين إلى مكة عندما بلغهم أن قريشا قد أسلمت.
ثم يذكر أن هؤلاء المهاجرين قد تولاهم يأس قاتم حملهم على التخلي عن كل أمل في الإصلاح الديني في مكة، ولكن (وات) يذهب إلى أن هذا حتى لو كان موقف المهاجرين فإنه ليس موقف محمد صلى الله عليه وسلم [١٠] وكان يشير إلى أن هذه الهجرة إنما هي هروب من ميدان الجهاد والاختفاء بعيداً عنه.