إن تحقيق العبودية بالعبادة والتوكل، وصدق اللجأ، والإنابة إلى الله تعالى بكل حال من صفات شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الغالبة عليه. فلننظر إليه عندما يؤمر به إلى السجن كيف يكون حاله: ذكر صاحب الكواكب الدرية: إن الشيخ لما أمر به إلى السجن بقلعة دمشق أظهر السرور بذلك، وقال إني كنت منتظراً ذلك، وهذا فيه خير عظيم. وروي أنه لما سجن بمصر بسجن القضاة، بحارة الديلم صار الحبس بالعلم والتعلم والعبادة والدين خيراً من كثير من الزوايا والأربطة والمدارس، وصار عدد كبير من المساجين إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده، وكثر المترددون إلى الشيخ حتى صار السجن يمتلئ بهم.
وكان رحمه الله تعالى يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وكان يقول: المحبوس من حبس قلبه عن ربه والمأسور من أسره هواه. ولما دخل القلعة وأصبح داخل سورها قال فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. فكان يرى في السجن جنة الدنيا لما يحققه له من القرب من ربه بالتفرغ لعبادته والانقطاع إلى الله تعالى فيصبح في جنة أنس ونعيم نفس. حكى عنه عارفوه أنه مع كثرة ما يهدد، ويضايق ويحبس كان أطيب الناس نفساً وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وما هذا إلا لقوة إيمانه، وكمال عبوديته، وصدق توكله.
حسن دعوته:
إن من غير المشكوك فيه أن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية كما كان رجل جهاد، بالنفس والمال في سبيل الله، كان رجل دعوة وإصلاح، وقد كملت رجولته في ذلك فلم يدانيه أحد من معاصريه، ولا ممن جاءوا بعده بحال من الأحوال. وهذا من فضل الله عليه، والله يؤتي فضله من شاء وهو الحكيم العليم.