للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذا الذي سماه أهل النحو زائدا لا بد منه عند أهل البلاغة، عند من يتذوقون أساليب القول الرفيع، ويتعرفون وجوه البيان المشرق.

فالإتيان بهذا الحرف الزائد في هذا المكان من قوله تعالى يفيد نفي الجنون عن الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم والشمول نصاً لا يقبل أي احتمال. والحال التي كان عليها كفار مكة من وصفه صلى الله عليه وسلم كذبا وبهتانا بالجنون أكثر من مرة، حالهم تلك تقتضي مثل هذا القول، وقد سبق بيان مثل هذا في قوله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} وذلك في الصيغة الثانية عشرة وفي الرسالة السادسة من هذه الرسائل.

الثاني: التعبير عنه صلى الله عليه وسلم (بصاحبهم) في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} كان تعبيرا عميق الدلالة فالج الحجة، كأنما هو يقول لكفار قريش: إن طول مصاحبتكم لهذا الرسول، واطلاعكم الكامل على أحواله، وتجاربكم الطويلة المتنوعة معه، كل أولئك قد أثبت لكم صدقه في الحديث، ورجاحة عقله في تصريف الأمور. فمن أين يجيئه الجنون يا بله التفكير ويا عمي البصائر.

الثالث: قد تقدم في هذه الرسالة بيان معنى الاستفهام في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} وأحب أن أنبهك هنا على أن الأوضح والأرجح- في رأيي- أن يتعلق الجار والمجرور (في أنفسهم) بالفعل (يتفكروا) على اعتبار أن الأنفس ظرف للتفكر.

ولأن التفكر لا يقع إلا في القلوب والأنفس كان (في أنفسهم) زيادة تصوير وتوكيد للتفكر، ومن هذا الأسلوب قولك اعتقده في قلبك وأضمرْه في نفسك، وأبصرْه بعينك واسمعه بأذنك.