إن اللغة ليست انعكاساً للفكر. ومن العبث أن نظن أن مثل هذا القول يضفي على اللغة أهمية خاصة. فاللغة تستمد أهميتها الاجتماعية أولاً وأخيراً من الدور الذي تضطلع به ضمن المجتمع كأداة للتوصيل والتفاهم، والتعبير والتخاطب، إلى آخر ذلك من الأغراض التي تلبيها.
نود أن نضيف عنصراً جديداً إلى جملة ما قلناه سابقاً، ألا وهو دور الجماعة في إغناء اللغة: إنه مما لا جدال فيه، أن الجماعة التي تؤلف أمة تعطي اللغة قوة الثبات وتدفع بها نحو التجديد في آن واحد. وما دامت هناك جماعة فهناك لغة. ومن المعروف أن كل جماعة تبحث لنفسها عن مثل لغوي أعلى ينطوي تحته كل الأفراد الراغبين في العيش ضمن مجتمع واحد. وإن من شأن هذا البحث عن المثل اللغوي الأعلى أن يقوي وحدة الأمة، وانطلاقاً من هذه النظرة نستطيع أن ندرس أثر اللغة في الحدث القومي، كما لا نريد أن تكون مفاهيمنا مستوحاة من هذه النظرة. وذلك لأن مفهوم القومية، أو قومية اللغة لا يفيد في دراسة اللغة باعتبارها مجموعة من القواعد التي تؤلف نظاماً. ونحن حين نقف على دراسة لغة من اللغات، فإنه لا يدخل في حسابنا موضوعياً الشعب الذي يتكلمها، لأن هذه الناحية لا تدخل في مجال الدراسات اللسانية، ومن الأفضل إحالة مثل هذه النواحي إلى ميادين علمية أخرى تعنى بمثل هذه الدراسات كالعلوم السياسية والاجتماعية مثلاً. إن العلم يقتضي منا أن نقف إزاء اللغة موقفاً مجرداً دون خلط بين عدة ميادين. وكما يقف الكيميائي من المواد التي يحللها ويجري تجاربه عليها بمعزل عن الأفكار غير الكيميائية، فإن على اللساني أن يقف هذا الموقف من مادته، وأن لا يستعير من الميادين الأخرى إلا ما يسمح به موضوع البحث نفسه.
قبل أن نغادر هذا الأمر إلى أمر آخر نحدد فيه موضوع اللسانية، نرى أن نقدم الأسباب التي تدفعنا إلى اتخاذ هذا الموقف: