للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولم يقف نفقد الرسول للشعر والنثر عند حدّ النقد العلمي الذي أوردناه منه آنفا بعض الأمثلة، بل كان الرسول كثيرا ما يتعدى ذلك إلى لون آخر من النقد، وهو النقد التوجيهي، الذي يتمثل في إرشاد الأدباء والشعراء وتوجيههم إلى ما يحسن به أدبهم، ويرتفع باتباعه شعرهم، من تلك الأقوال والنصائح، حتى يُعينهم اتباعها على تحسين أعمالهم، وبلوغها حدّ الكمال والجمال الأدبي، من ذلك ما أوردنا آنفا من نصائح، يضاف إليها قوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله وجه رجل أوجزَ في الكلام، واقتصر على حاجته".

وقوله صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله البجلي [١٨] : "يا جرير إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف".

ومنها قول صلى الله عليه وسلم: "لا تكّلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوهم أصلها فتظلموهم".

وفي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم السابقة - بما تحمل من توجيهات وإرشادات - نقدات أدبية غاية في الأهمية، فهي تدعو إلى الصدق في القول، وعدم التكلف والغلو فيه كما تدعو إلى ترك التظاهر بالبلاغة والتشادق بالفصاحة، وترك السجع المتكلف؛ لأن هذه الأمور الأخيرة المنهي عنها، قد تبهم المعنى، وتضيع الحقيقة، وقد تلبس الباطل ثوب الحق.

هذه النقدات الأدبية بشقيها: الفعلي والتوجيهي، التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعراء والأدباء، والتي وقفنا على طرف منها فيما أوردنا من أمثلة - هذه النقدات تمثل تطورا لتلك المحاولات النقدية التي بدأت منذ العصر الجاهلي، وهي محاولات تعتمد على الذوق والفطرة والطبع وصحة الفهم وسعة الرواية، والخبرة المستفادة من المعارف العامة، مستظلة بروح الدين وتعالميه وآدابه، متجهة إلى اللفظ والمعنى والأسلوب والغرض.